العلاقات المصرية السعودية لم تكن يومًا مجرد علاقة بين بلدين شقيقين، بل هي تاريخ طويل من المواقف المصيرية، وأحداث جسام صاغت حاضر الأمة العربية وحددت اتجاهاتها.
هذه العلاقات وُلدت من رحم القضايا الكبرى، وظلت على مر العقود حائط صدّ أمام كل محاولات تفتيت المنطقة أو زعزعة استقرارها.
وبينما يحاول البعض اليوم عبر وسائل التواصل الاجتماعي، افتعال أزمات، وخلق أجواء من التوتر بين الشعبين، تبقى الحقيقة واضحة وضوح الشمس، مصر والسعودية ليستا مجرد شريكين، بل هما ركيزتان لا يستقيم الأمن العربي من دونهما.
في الأسابيع الأخيرة، تداولت بعض الحسابات المجهولة عبر "السوشيال ميديا"، منشورات تسعى لبث الفرقة بين المصريين والسعوديين، من خلال عبارات استفزازية ومُسيئة، طالت تاريخ العلاقات، وقضايا تاريخية، بل وتم التلاعب بالأسماء لإشعال النقاش السلبي، والتراشق بالألفاظ، والإهانات في هذه الحسابات غير المسؤولة، لكن هذه المحاولات لم تلقَ أي صدى يُذكر على أرض الواقع.
الشعبان المصري والسعودي يعرفان جيدًا أن ما يجمعهما أكبر بكثير من أن يُختزل في مثل هذه الفتن المصطنعة، وأن ما تحاول هذه الحملات فعله لا يعدو كونه محاولة يائسة لإثارة غضب لا أساس له.
تاريخ العلاقات بين القاهرة والرياض مليء بالشواهد التي تثبت أن البلدين يسيران دائمًا في خندق واحد.
ففي ستينيات القرن الماضي، وقفت السعودية بجوار مصر خلال فترة التحديات الاقتصادية والسياسية، بينما كانت مصر إلى جانب المملكة في أوقات الأزمات، بداية من الدفاع عن الأراضي العربية في حرب أكتوبر 1973، مرورًا بالتحالفات العربية في مواجهة الإرهاب، وصولًا إلى الشراكة السياسية والاقتصادية المتينة التي نراها اليوم.
هذه العلاقات لم تُبنَ على المصالح الوقتية، بل على إدراك عميق بأن مصير البلدين واحد، وأن أي تهديد لأحدهما هو تهديد للآخر.
فتن فاشلة
وفي هذا السياق، أكد وزير الخارجية المصري بدر عبد العاطي، رفض بلاده الكامل لمحاولات بعض "المنصات الإلكترونية غير المسؤولة" إثارة الفتنة أو الإضرار بالعلاقات التاريخية بين مصر والسعودية.
وجاءت تصريحات عبد العاطي خلال لقائه نظيره السعودي الأمير فيصل بن فرحان بمدينة العلمين، حيث أعرب عن "الاستهجان التام لأي محاولات يائسة من بعض المدونين المجهولين على مواقع التواصل، للإساءة للبلدين الشقيقين، أو التشكيك في صلابة علاقتهما".
وشدد الوزيران على عمق الروابط الأخوية والتاريخية التي تجمع بين القاهرة والرياض، مشيرين إلى الدعم الكبير الذي تحظى به العلاقات من القيادة السياسية في البلدين، وعلى رأسهم الرئيس عبد الفتاح السيسي، والملك سلمان بن عبد العزيز، وولي العهد الأمير محمد بن سلمان.
وأشاد الجانبان بالزخم الذي تشهده العلاقات الثنائية، خاصة بعد إنشاء "مجلس التنسيق الأعلى المصري السعودي"، الذي يستهدف دفع التعاون إلى مستويات جديدة في مجالات الاقتصاد، والاستثمار، والتجارة.
الحملات المشبوهة التي تُشن عبر مواقع التواصل الاجتماعي، سواء عبر "الذباب الإلكتروني" أو غيره، لا يمكنها أن تمس جوهر هذه العلاقة.
مصير واحد
فعندما نتأمل الواقع نجد أن هناك أكثر من 2.5 مليون مصري يعيشون ويعملون في السعودية، مساهمين في مسيرة التنمية ضمن رؤية السعودية 2030، في حين يقيم في مصر ما يقرب من مليون سعودي، سواء بغرض السياحة، أو الدراسة، أو الاستثمار، وكل هؤلاء يربطهم شعور بالألفة والمودة.
هذا التداخل الإنساني والاجتماعي، يجعل أي محاولة لزرع الشقاق بين الشعبين، مجرد حلم مستحيل التحقيق.
حتى على المستوى الاقتصادي، تشهد العلاقات المصرية السعودية طفرة كبيرة، حيث تُعد السعودية أكبر مستثمر عربي في مصر، حيث تجاوز مجموع صافي الاستثمارات السعودية المباشرة في مصر خلال الأعوام المالية الثلاثة الماضية، 3 مليارات دولار، وفق بيانات البنك المركزي المصري.
وسجلت قيمة الاستثمارات نحو 380 مليون دولار في العام المالي 2021-2022، ثم قفزت إلى حوالي 2.1 مليار دولار في 2022-2023، فيما سجلت في 2023-2024 نحو 586 مليون دولار.
وتعد مشروعات الربط الكهربائي، والاتفاقيات المتعلقة بممرات الشحن، والاستثمارات السعودية في محور قناة السويس، من أبرز الأمثلة على عمق التعاون الذي يتخطى مجرد العلاقات الدبلوماسية إلى شراكة استراتيجية كاملة.
وعلى صعيد القضايا الإقليمية، فإن القاهرة والرياض تتعاملان مع الأزمات بمنطق الشريك الحقيقي، وليس المنافس أو المتفرج.
في الملف الفلسطيني، على سبيل المثال، تنسق الدولتان خطواتهما لضمان وقف إطلاق النار، ودعم حقوق الشعب الفلسطيني.
وفي ليبيا، كان صوت البلدين واحدًا في رفض التدخلات الخارجية، ودعم الحل السياسي.
وفي السودان، تنسق مصر والسعودية جهود الإغاثة الإنسانية والعمل الدبلوماسي لوقف النزاع.
هذه الملفات المعقدة تظهر أن العلاقة بين البلدين ليست مجرد علاقة تقليدية، بل هي علاقة تكاملية تتعلق بمصير الأمة بأكملها.
شراكة متينة
عمرو موسى، الأمين العام الأسبق لجامعة الدول العربية، حذر في تصريحات سابقة من وجود "محاولات لكسر العمود العربي"، مؤكدًا أن أي خلخلة في العلاقة المصرية السعودية، ستكون بمثابة ضربة خطيرة للأمة العربية ككل.
لكنه أكد في الوقت ذاته، أن هذه العلاقة أعمق من أن تتأثر بمثل هذه الحملات، وأن الشعبين على وعي كامل بما يُحاك لهما من مؤامرات تستهدف إضعاف المنطقة.
وأهاب الأمين العام الأسبق للجامعة العربية بالشباب العربي "بل بكل العرب الواعين"، ألا يتورط أحد في تبادل تعليقات "عنيفة!" على وسائل التواصل الاجتماعي، مبنية عما وصفه بـ "العنعنة"، والقراءات الخاطئة، بل الخبيثة، لمقالات أو تعليقات بشأن الأحداث والتطورات الجارية في العالم العربي وحول قضاياه.
وقال موسي، إن الأمة العربية تمر بمنزلق حاد جدًّا يزيده "علماء التشكيك والوقيعة" خطورة، وأنهم "يستهدفون تدمير العلاقات بين الشعوب العربية، بعد أن كادوا أن ينجحوا في إحداث الفرقة بين النظم العربية (إلا من رحم)" على حد وصفه.
وأضاف عمرو موسى أن "العلاقة المتينة بين المملكة العربية السعودية ومصر، عمود رئيسي للعالم العربي "يراد كسره حاليًا"، مؤكدًا أنه "علينا جميعا أن نرعى هذه العلاقة، وندعم مسيرتها".
وتابع: "لا تعرضوها لعلماء التشكيك والوقيعة، ولا أن نقع في شباكهم، ولنجعل السوشيال ميديا منطلقًا إيجابيًّا لخدمة المستقبل العربي، وليس العكس".
وفي وقت سابق، قال الرئيس عبدالفتاح السيسي أكثر من مرة، إن "أمن الخليج جزء لا يتجزأ من الأمن القومي المصري"، بينما صرح ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان قائلًا: "مصر والسعودية يد واحدة، ولن ترونا إلا معًا".
هذه الكلمات لم تكن مجرد عبارات بلاغية، بل هي تعبير عن التزام حقيقي بتحقيق التكامل في كل المجالات، ومواجهة أي تهديدات، سواء جاءت من الداخل أو الخارج.
التاريخ الحديث يقدم لنا شواهد لا تُحصى على هذا التعاون، في أثناء حرب أكتوبر 1973، كان الدعم السعودي لمصر عبر سلاح النفط، أحد العوامل الحاسمة في تغيير موازين القوى.
وفي مواجهة الإرهاب العالمي، كانت مصر والسعودية في طليعة الدول التي أسست تحالفات لمكافحة التطرف وتمويل الجماعات الإرهابية. واليوم، في ظل التحديات الاقتصادية العالمية، تعمل الدولتان معًا من أجل تحقيق الاستقرار في أسواق الطاقة والمواد الغذائية، بما يضمن مصالح شعوب المنطقة.
أما على مستوى الشعوب، فإن المصريين والسعوديين يربطهم تاريخ طويل من المصاهرة، والتجارة، والثقافة المشتركة، لا يكاد يوجد مصري لم يعمل أو يزر السعودية، ولا سعودي لم يزر مصر للسياحة، أو الدراسة، أو العلاج، هذه الروابط الشعبية تشكل أساسًا متينًا يصعب على أي حملة إعلامية أن تهدمه.
ويري مراقبون أن من يتابع الحملات الأخيرة التي تحاول بث الفتنة، يلاحظ أنها تعتمد على أساليب مكشوفة، مثل: تحريف الحقائق، أو استغلال القضايا الحساسة لإثارة الجدل، لكنها سرعان ما تفشل؛ لأن الواقع مختلف تمامًا.
القاهرة والرياض قوتان مركزيتان
ويشير مراقبون إلى أن المصري يرى في السعودي أخًا له، والسعودي يرى في المصري شريكًا وأخًا، ولا يمكن لحسابات مجهولة عبر مواقع اتواصل الاجتماعي أن تغير هذه الحقيقة.
اليوم، ومع كل هذه المحاولات المغرضة، نجد أن القيادتين المصرية والسعودية تردان بطريقة عملية، عبر المزيد من التعاون والتنسيق، وأكبر شاهد على ذلك الاجتماعات الدورية، والزيارات المتبادلة، والاتفاقيات الاقتصادية المتزايدة، كلها رسائل واضحة بأن العلاقة بين القاهرة والرياض لا تتأثر بالأصوات المأجورة.
ومن أبرز مجالات التعاون التي تعكس هذا العمق الاستراتيجي: التعاون في إطار رؤية السعودية 2030. هذه الرؤية الطموحة التي يقودها الأمير محمد بن سلمان، تهدف إلى تحويل الاقتصاد السعودي إلى اقتصاد متنوع ومستدام، يعتمد على الابتكار، والطاقة المتجددة، والاستثمار في الإنسان.
وهنا تلعب مصر دورًا مهمًا، ليس فقط باعتبارها شريكًا اقتصاديًّا، بل باعتبارها مركزًا إقليميًّا للمشروعات العملاقة التي تندرج تحت مظلة هذه الرؤية.
فهناك استثمارات سعودية ضخمة في قطاعات البنية التحتية، والطاقة، والسياحة، والعقارات داخل مصر، فضلًا عن التعاون في مشروعات استراتيجية، مثل: الربط الكهربائي الذي يتيح تبادل الطاقة بين البلدين، ويعزز أمن الطاقة العربي.
كما أن العمالة المصرية الماهرة، تمثل ركيزة أساسية في تنفيذ مشروعات رؤية 2030 داخل المملكة، من بناء المدن الذكية مثل: “نيوم”، إلى المشروعات السياحية الكبرى مثل: “البحر الأحمر” و”القدية”. هذا التكامل البشري والاقتصادي، يعكس حقيقة أن نجاح أي طرف يعني نجاح الطرف الآخر، وأن النمو في السعودية ينعكس بشكل إيجابي على الاقتصاد المصري، والعكس صحيح.
ومع تنامي التحديات الإقليمية والدولية، تبرز القاهرة والرياض كقوتين مركزيتين في العالمين العربي والإسلامي، تسعيان إلى بناء شراكات جديدة مع القوى الكبرى، وفي الوقت نفسه إلى حماية مصالح شعوبهما.
التعاون في منظمة التعاون الإسلامي، ومجموعة العشرين، والمنتديات الاقتصادية العالمية، كلها تؤكد أن مصر والسعودية تتحركان برؤية واحدة لمستقبل عربي مزدهر.
في المجمل، فإن العلاقات المصرية السعودية هي أكثر من مجرد تعاون بين حكومتين، إنها التقاء لإرادتين وقيادتين تعملان على صياغة مستقبل المنطقة بروح من الشراكة والمسؤولية، وكل محاولات الفتنة والتشويه ستبقى أصواتًا هامشية تتلاشى أمام حقيقة أن الشعبين الشقيقين، والقيادتين الحكيمتين، متمسكون بخيار الوحدة والتكامل، مهما كانت العقبات.
في النهاية، ما يجمع مصر والسعودية ليس مجرد اتفاقيات أو مصالح مشتركة، بل هو تاريخ طويل من الدماء التي امتزجت في معارك الدفاع عن الأمة، ومن الأيادي التي تساندت وقت الشدائد، ومن القلوب التي تعرف قيمة الأخوة، ومن يراهن على تفكيك هذه العلاقة، إنما يراهن على المستحيل، وعلى وسائل الإعلام المغرضة أن تدرك أن قوتها محدودة أمام وعي الشعوب، وأمام يقين المصريين والسعوديين أن وحدتهم هي السلاح الحقيقي الذي سيهزم كل فتنة.