في لحظة بدا أن الحظ قد ابتسم، وقعنا مصادفةً على إعلان عقاري فاخر عن مدينة تُبنى على أرض مصرية، يُسوَّق فيها "الوطن" كفرصة استثمارية مفتوحة للجميع...
المُتحدث في الإعلان خليجي. اللغة المستخدمة بعيدة تمامًا عن اللهجة المصرية. العرض؟ شقق فاخرة على السواحل المصرية بـ"فرصة لا تُعوَّض"، وبدون شروط تتعلق بجنسية المشتري أو انتمائه، وكأن التراب الذي لطالما غرق بدماء الشهداء، بات مُتاحًا بالفيزا وبالدولار فقط.
ولأول مرة، شعرت أن هذا ليس مجرد إعلان... بل صفعة. صفعة وعي. إذ كيف يتحوّل وطنك إلى سلعة لا تملك فيها شيئًا؟ وكيف يصبح الحلم بالسكن في أرضك مرهونًا بجواز سفر أجنبي، أو بحساب مصرفي خارجي؟
وهنا انطلقتُ لأسأل:
هل هذا مشروع لمصر… أم أن مصر نفسها باتت مشروعًا في دفاتر أحدهم؟
---
* الجمهورية في ثوب المُلْك
من يخت "المحروسة" إلى "مدينة رأس الحكمة"، تبدو الرحلة كأنها عبور من تاج الملوك إلى المقاولات ، من صورة ملك يتنازل عن العرش إلى واقع حاكم لا يتنازل حتى عن تصريح بناء.
الجمهورية التي وُعدنا بها قبل أكثر من سبعين عامًا، تحوّلت إلى نموذج مطاطي يُقصّ ويُفصّل حسب رغبة "الحاكم المستثمر". لا تداول للسلطة، لا تداول للثروة، لا تداول حتى للسكن!
والنتيجة؟
"جمهوركيات معدّلة وراثيًا" توارثت فيها الأنظمة أدوات الحكم، لا أدوات العدالة.
---
* رأس الحكمة… أم رأس الأمة؟
رأس الحكمة، تلك البقعة الساحلية التي كان يمكن أن تكون أيقونة للمشروع الوطني، صارت تُدار بعقلية الصفقة.
المخطط؟ يمر دون نقاش.
والمستفيد؟ قطعًا ليس المواطن.
إنها مدينة تُبنى بنظام "الحق الحصري"، وكأن البحر صار ماركة مسجلة باسم مستثمر خارجي، والمصري يُشاهد المشهد من بعيد، كعامل بناء… أو كحارس أمن.
---
* التنمية التي لا تنمينا
قالوا: المشروع "هيغير شكل الساحل".
لكنهم نسوا أن يذكروا أنه سيُغير هوية الأرض.
قالوا: "هيخلق آلاف الوظائف".
لكنهم أخفوا أن السكن ليس لك، وأن الدخول إلى تلك الجنة الجديدة مشروط بأصفار في حسابك البنكي.
وهكذا، صارت التنمية تعني: مزيد من ناطحات السحاب… ومزيد من الفقراء المحاطين بالسياج.
---
* إعلام... يصفّق ثم ينصرف
لا إعلام يحقق.
لا صحافة تطرح الأسئلة.
ولا مناظرة واحدة خرجت تناقش: من الذي فوّض؟ ومن الذي قرر؟ ولماذا صار البحر يُباع كما تُباع السلع؟
حتى حين تعلو الأصوات، فإنها تعترض على "السرعة"، لا على المبدأ.
يعارضون "الخصخصة المفرطة"، لا بيع الأرض.
ينتقدون "الطريقة"، لا الجريمة الأصلية.
---
* وطنٌ يُبنى... للمُلاك فقط
المصري يُمنع من بناء شقة في قريته دون موافقة ودمغات ومعاناة.
بينما يُسلَّم المستثمر الأجنبي سواحل بأكملها بتوقيع واحد.
المصري يدفع "دم قلبه" ليسكن على أطراف العاصمة، بينما تُبنى الجُزر والمدن الجديدة بمنطق: "مش لأي حد".
فأين الوطن؟ إن لم يكن لك فيه قدم، ولا ظل، ولا مفتاح؟
---
* أزمة بوصلة لا أزمة عقار
القضية ليست صفقة عقارية، بل تحوّل سيادي كامل.
هل نحن دولة تُخطط لمواطنيها؟ أم سوق مفتوح لمن يدفع؟
متى أصبحت الأرض مرهونة بالمزايدة؟
ومتى صار الوطن شيئًا نُعلن عنه في إعلانات "البرج الفاخر بإطلالة عربية"؟
من يملك الأرض اليوم؟
ومن يملك القرار؟
ومن سيشتري مصر القادمة؟
---
* شعب صابر... لكن ليس أعمى
الشعب الذي ثار في 2011 و2013 لا يزال يتساءل: هل الثورة كانت من أجل هذه "الجمهورية التجارية"؟
أين العدالة؟
أين المشاركة؟
أين الحق في الأرض؟
لماذا تبدو كل مدينة جديدة وكأنها تُبنى ضد الناس لا من أجلهم؟
ولماذا نُستثنى من وطنٍ ندفع ثمنه كل يوم؟
---
🖋️ خاتمة: نداء لمن لا يريد أن يسمع
لسنا ضد الاستثمار،
لكننا ضد أن يُدار الوطن كصفقة.
لسنا ضد التطوير،
لكننا ضد أن يكون التطوير على حساب المواطن.
لسنا ضد الحداثة،
لكننا نرفض أن تُمحى معها ملامح الهوية.
أيها السادة: إذا فُقدت الحكمة، فحتى رأس الحكمة لن تنقذكم.
وإذا غاب الانتماء، فكل ما تبنونه على البحر… سيغرق.
---
📌 وللمواطن البسيط أقول:
ربما لم يكن لك نصيب في شقة برأس الحكمة،
لكنك تملك "رأس الحكمة" نفسها… فاستخدمها.
---
"مشروع لمصر أم مصر مشروع؟"
عنوان للتاريخ… وسؤال سيبقى ما لم نمتلك الإجابة بشجاعة.
-----------------------
بقلم: محمد عبدالحميد