12 - 07 - 2025

صنعة الحواشي

صنعة الحواشي

تُعدّ مقدمة العلامة الفقيه سليمان بن عمر بن منصور العجيلي المعروف بالجمل (ت1204)، في حاشيته على «شرح المنهج» لشيخ الإسلام زكريا الأنصاري، من أنفس ما كُتب من مقدمات فقهية عند متأخري فقهاء الشافعية؛ إذ تمثل كل كلمة فيها مسلكًا من مسالك البحث العلمي الأصيل، بما تحويه من تحديد للمادة، وبيان لمنهج الانتخاب، والتزام بضوابط النقل والتحرير.

وقد تأملت هذه المقدمة وغيرها من مقدمات حواشي متأخري الشافعية، فرأيتها تُبرز عقلية الفقيه الباحث، لا الفقيه الناقل، وتكشف عن كيفية تعامُلهم مع المتون الكبرى وشروحها، وما تتطلبه من جمع، وتحرير، وتخريج، وضبط للعبارات، وانتقاء من عشرات المصادر والمراجع، مع سعة اطلاع، ونَفَس علمي طويل.

وفيما مضى جمعتُ هذه المقدمات في ملف خاص، وعلّقتُ على بعضها، فرأيتُها تمثل مدخلًا علميًّا مهمًّا لفهم منهج المتأخرين في التأليف الفقهي، وكيف كانوا يُنتجون الحواشي لتكميل ما لم يُستوفَ، وتيسير ما استغلق، وبيان ما أهمله الشرّاح.

وهذا - فيما أحسب - باب لم يُفتح على وجهه (المدخل إلى مناهج الفقهاء المتأخرين في خدمة المتون الكبرى)، وهو في الحقيقة رافدٌ مهم لاستدعاء القدوة التأليفية، وبعث الهمم نحو تجديد صلة الطالب بالمصنفات الكبرى، من خلال فهم طريقة التأليف فيها، ومقاصد أصحابها.

وها هنا أقدّم أنموذجًا مختصرًا من تلك المقدمات، مع استخلاص لبعض فوائدها، ليتبيّن للقارئ كيف تحوي الأسطر القليلة منها منهجًا علميًّا متينًا، يمكن أن يُستثمر تربويًّا ومنهجيًّا في تكوين الباحث الفقهي المعاصر.

قال الفقيه الجمل: "ومن أحسن ما صُنِّف فيه: شرح المنهج لشيخ الإسلام، الذي لم تسمحْ بمثله القرائح، ولم تطمحْ للنسج على منواله المطامح، بهرَ به الألباب، وأتى فيه بالعجبِ العُجاب، وأودعه المعانيَ العزيزةَ بالألفاظِ الوجيزة، وقرّبَ المقاصدَ البعيدةَ بالأقوالِ السديدة، فهو يُساجلُ المطوّلاتِ على صغرِ حجمه، ويُباهلُ المختصراتِ بغزارةِ علمه. جزاهُ اللهُ على صنيعهِ جزاءً موفورًا، وجعلَ عملهُ متقبّلًا، وسعيهُ مشكورًا.

وقد منَّ اللهُ عليَّ بتلقّيه عن مشايخَ عظام، ومطالعته مع إخوانٍ كرام، ورأيتُ كلَّ حاشيةٍ من حواشيه لا تفي - على حدّتِها - بالكلامِ عليه، ورأيتُ المريدَ لفهمه لا يستغني عن مطالعةِ شرحِ الرملي وحواشيه، وفي استيفاءِ هذه الموادِّ عند مطالعته مشقةٌ كبيرة، وخصوصًا مع عدمِ مساعدةِ الزمان، فأحببتُ أن أجمعَ من تلك الموادِّ حاشيةً يُستغنى بها عن مراجعتِها كلَّ مرة، وقد التزمتُ فيها نقلَ ما زاد به الشمسُ الرملي في شرحه على شرحِ المنهج، ونقلَ ما في حاشيةِ الشبراملسي، والرشيدي، والتزمتُ فيها أيضًا تلخيصَ ما في حاشيةِ الحلبي، وحاشيةِ البرماوي، وحاشيةِ ابن قاسم، وحاشيةِ الشُّوبَرى، وحاشيةِ الشبراملسي على الشارح. وكثيرًا ما أنقلُ فيها من حاشيةِ الزيادي، ومن شرحِ ابن حجرٍ وحاشيتِه، وشرحِ الروض، وشرحِ البهجة، وشرحِ الجلال المحلي، والقليوبيِّ عليه، ومن اللغة، ومن التفاسير، بحسبِ ما يقتضيه المقام، ومن حواشي التحرير، والخطيب. والتزمتُ فيها أيضًا تقريرَ شيخِنا الشيخ عطية الأجهوري، وكثيرًا من تقرير أستاذِنا الشمس الحفناوي".

هذه مقدمة نفيسة، تكشف عن منهج عملي متكامل في التعامل مع الشروح المعتمدة، ينهض به المتعلمُ العالِمُ الذي يتجاوز الفهم إلى خدمة المتن، وجمع مواده، وتذليلها للطلاب، وفق خطوات منهجية؛ منها:

1. اختيار متن معتمد: "ومن أحسن ما صنف فيه".

2. تلقي مباشر عن المشايخ: “بتلقيه عن مشايخ عظام”.

3. مذاكرة جماعية: “مع إخوان كرام”.

4. مراجعة نقدية للحواشي: “لا تفي بالكلام عليه”.

5. تكرار وتدقيق: “مطالعته... واستيفاء المواد”.

6. تجميع وتلخيص من عدة مصادر: من الرملي، الشبراملسي، الرشيدي، البرماوي، الشوبري، الحلبي، الزيادي، ابن حجر، المحلي، القليوبي... إلخ.

7. استحضار للغة والقرآن والتفاسير: “ومن اللغة ومن التفاسير”.

8. تضمين تقريرات الشيوخ: “تقرير شيخنا الأجهوري وأستاذنا الحفناوي”.

9. إدراك صعوبة الجمع وكثرة المراجع: "وفي استيفاء هذه المواد عند مطالعته مشقة كبيرة".

10. مبادرة علمية: "فأحببت أن أجمع".

11. نية خدمة الطلاب: “يُستغنى بها عن مراجعتها كل مرة”.

فانظر كيف صاحب الفقيه الجمل فتح الوهاب: اختيار واعٍ، وتلقٍّ عن الشيوخ، ومذاكرة مع الأقران، ونقد للحواشي، وتكرار للمطالعة، وجمع بين المتفرق، وتلخيص للمتشعّب، واستحضار لمصادر اللغة والقرآن، وتضمين لتقريرات المشايخ.

ويتجلى في هذه المقدمة بوضوح منهج المتعلم العالم الذي لا يكتفي بالفهم، وإنما يجعل الكتاب مشروع عمر، يدرسه، ويقرؤه على الأساتذة، ويذاكره مع الأصحاب، ويجمع عليه الحواشي، ويختار منها، ويخدمه خدمة نابعة من محبة، وغيرة على العلم، ورحمة بالمتعلمين.
----------------------------------
بقلم: د. علي زين العابدين الحسيني


مقالات اخرى للكاتب

صنعة الحواشي