هاجرت هند إلى أمريكا ومعها ابنها ذو السنوات العشر، وأقاما في حي بروكلين بولاية نيويورك، وعبثًا حاولت أن تنفصل عن موروثاتها القديمة التي تربت عليها من تقاليد وأعراف امتزجت فيها الخرافة بالحقيقة وطغى عليها صور ملتبسة للعلاقة بين الرجل والمرأة.
دعاها جارها المقيم في الشقة العلوية، بعد فترة تعارف قصيرة، لتلتحق بفصل يقدم فيه دروسًا في الرقص، وهناك وجدت سيدات وفتيات من جنسيات وأعراق مختلفة جئن لتلقي تلك الدروس، في خجل انضمت إليهن.
تقدم نحوها وبرفق وضع راحتها في كفه وقال لها "اتبعيني"، وبينما راح هو يُنَقِل قدميه في خطوات مرتبة ويَعُدْ بصوتٍ مسموع "واحد، اثنين، ثلاثة، أربعة"، تَعَرَقَتْ يدها وارتبكت في فوضى محاولات المحافظة على مسافة فاصلة بينها وبينه، مما أفقدها تركيزها.
كرر المحاولة معها عدة مرات، وجاءت النتيجة واحدة؛ فشلت في حفظ الخطوات ونجحت في الإبقاء على المسافة الفاصلة بينهما، مما حدا به أن يقول لها في شيء من ضيق "أنا لن آكلك، ولا أحد ينوي في هذا العالم أكلك، هذه مجرد رقصة يا عزيزتي"، بهدوء انفلتت من يده وانصرفت عائدة إلى مسكنها وقد قررت تجنبه.
بإحساس امرأة مقهورة، صاغت ميرال الطحاوي عذابات هند في روايتها "بروكلين هايتس"، ففي الطريق إلى عملها، راحت هند تلوم نفسها حينًا، وتلتمس العذر حينًا آخر، لكنها عندما تذكرت جسمها المكتنز وعملها في مسح الطاولات وتنظيف الأرضيات، أيقنت أنها اختارت العمل الذي يناسب طبيعتها الخجولة حيث لا حاجة للتحدث مع الزبائن، بخلاف زميلتها فاتيما الجالسة على الكاشير وشطارتها في التفاعل مع الزبائن لبيع المزيد من القهوة والكعك، فضلاً عن حلمها ان تكون نسخة ثانية من عارضة الأزياء ناعومي كامبل، بقوامها الممشوق وبشرة بلون القرفة.
على العكس من ذلك، كان ابنها يندمج في الحياة الأمريكية بتفاصيلها، يقل استخدامه للغة العربية في حديثهما يومًا بعد يوم، ويتابع نشرات الأخبار وينتقد السياسيين، ويحلم بأن يعيد إنتاج قصة نجاح أوباما ويترشح للرئاسة أو على الأقل حاكمًا لولاية نيويورك.
يونيو الماضي فاز الشاب زهران ممداني، البالغ من العمر 33 عامًا، بترشيح الحزب الديموقراطي للترشح لمنصب عمدة نيويورك بنسبة قياسية؛ 56%، مُقصيًا منافسيه ذوي الخبرات الطويلة في المناصب الحكومية والسياسية ومثيرًا حالة من الجدل يتوقع أن تستمر لحين انطلاق الانتخابات النهائية في نوفمبر القادم، ويرجع الجدل إلى كونه مهاجرا مسلما لأبوين هنديين وفد إلى أمريكا بعمر سبع سنوات، معروف بمواقفه النقدية تجاه إسرائيل وله مواقف تعارض سياسة الرئيس دونالد ترامب حيال قضايا الهجرة، مما حدا بالأخير للتهديد باعتقاله وترحيله، في مشهد يذكرنا بأجواء روايات الكولمبي، جابريل جارثيا ماركيز في رواياته؛ مائة عام من العزلة، وخريف البطريرك، والجنرال في متاهة، وليس لدى الكولونيل من يراسله.
وقد صورت هذه الروايات أنماطًا مختلفة من الديكتاتورية شملت منح الرتب العسكرية لأبناء العائلات الحاكمة، وانتشار الفساد، وأجهزة القمع السياسي التي تديرها أجهزة المخابرات، كما سلط الضوء على التواطؤ بين الطاغية ومستشاريه الذين يساهمون في استمرار النظام القمعي والحفاظ على عزلة الديكتاتور كرمز لعزلته الإنسانية.
كان ماركيز ماهرًا في تطويع سياق مشاهد رواياته ولغته بالسخرية الـمُرّة، ففي تعقيب للكولونيل على كثرة ما يصدر من قرارات إلى درجة التعارض فيما بينها قال، (هنا في هذه المدينة لم يقتلونا بالرصاص، قتلونا بالقرارات).
أيضًا، ضَفَرَ ماركيز رواياته تلك بصور حملت في طيات تفاصيلها صورًا ساخرة لتلك المشاهد، فعندما تجاهلت الصحف ما يدور من أحداثٍ وأزمات محلية وأسهبت في الحديث عن أخبار الدول الأوروبية، علّق الكولونيل قائلاً، (منذ فُرضت الرقابة والصحف لا تتحدث إلا عن أوروبا.. من الأفضل أن يأتي الأوربيون إلى هنا ونذهب نحن إلى أوروبا. وهكذا سيعرف كل منا ما الذي يجرى في بلده)..
لا تقلق يا سيد ماركيز، فقد حمل الشرقيون أحلامهم في صدورهم وهاجروا إلى أمريكا وراحوا يحولونها إلى واقع، فبحسب الإحصاءات والنتائج الفعلية، على مستوى الحزب، أثبت ممداني أنه الأنسب لنيويورك، وأنه بات قريبًا من تحقيق حلمه، فهل سيفعلها ويتمكن من إزاحة منافسيه في انتخابات نوفمبر القادم؟، أم سيضطر لصياغة حلم آخر؟
--------------------
بقلم: د. محمد مصطفى الخياط
[email protected]