11 - 07 - 2025

سيادة الدولة.. بين النظرية والتطبيق

سيادة الدولة.. بين النظرية والتطبيق

أثناء المداولات القضائية بخصوص مسألة اتفاق تعليم الحدود البحرية بين مصر والسعودية، وخاصة ما تعلق بوضع جزيرتي تيران وصنافير، اللتين كان يفترض بموجب ذلك الاتفاق أن يتم نقل السيادة عليهما من مصر إلى السعودية، أثارت هيئة قضايا الدولة المصرية دفعًا أصليًّا بعدم اختصاص محكمة القضاء الإداري بالنظر في مسألة تتعلق بالسيادة، وهو ما حاولت الهيئة الموقرة أن تسحبه على الاتفاقات والعقود التي تبرمها الدولة.

ورغم أن مجلس الدولة المصري قد رفض هذا الدفع بشكل حاسم، على الأسس التي بنى عليها اختصاصه بالنظر في القضية، وهو حكم تاريخي بكل المقاييس، وبما صاحبته من ملابسات، كان أغربها أن تتولى هيئة حكومية مصرية مهمة الدفاع عن حق لدولة أجنبية لم تحاول حتى أن تتدخل في الدعوى كي تثبت أحقيتها في الجزر، إلا أنه من المهم أن أسجل هنا موقف دفاعنا في وجه هذا الدفع، والذي اعتبرته في مداخلاتي أمام هيئة المحكمة الموقرة، تسجيلًا يتجاوز نطاق الدعوى المثارة إلى آفاق سياسية وقانونية جديدة بخصوص تطبيقات نظرية السيادة.

بادئ ذي بدء، تُعدّ السيادة من المفاهيم المركزية في الفكر القانوني والسياسي، إذ تُشكّل الإطار الذي تُبنى عليه سلطة الدولة، وتُمارس عبره اختصاصاتها. ومع تطور الدولة الحديثة وتداخلها المتزايد مع النظام الدولي، لم تعد السيادة مفهومًا مطلقًا، بل باتت تخضع لتوازنات داخلية وخارجية؛ من أبرزها: علاقة السيادة بأحكام القضاء الوطني والدولي، ودور القضاء في مراقبة المعاهدات. وتُعد فرنسا نموذجًا بارزًا لتطور هذا المفهوم وتطبيقاته، فقد كانت هي المهد الذي ولدت فيه عناصر هذه النظرية، ثم كانت هي المجال الذي ترعرعت فيه على مر السنين تحسينًا ونضجًا حتى وصلت إلى وضعها الحالي.

أولًا: مفهوم السيادة في القانون:

السيادة تعني السلطة العليا والنهائية في الدولة، وهي التي لا تعلوها سلطة أخرى سواء في الداخل أو الخارج. وقد طور هذا المفهوم المفكر جان بودان في القرن السادس عشر، ثم أعادت الثورة الفرنسية صياغته ليعبّر عن إرادة الشعب لا عن إرادة الحاكم، وكوسيلة للتوازن تضمن للدولة بعض المرونة بعيدًا عن استبداد الأغلبية، لذلك فقد لوحظ بأن نطاق تطبيق تلك النظرية كان يتناسب عكسيًّا مع تطور النظام الديمقراطي، فكلما ازداد وعي الشعب وهيئاته المنتخبة في اتخاذ القرارات السياسية، كلما تراجعت الحاجة لمنح الدولة أداة زائدة لحماية قراراتها وخاصة المتعلقة بإبرام الاتفاقات الدولية.

خصائص السيادة:

تتميز فكرة السيادة في شكلها النظري الأمثل بما يلي:

العلو: أي أنها لا تخضع لأي سلطة أخرى.

الوحدة: وهي لا تتجزأ.

الدوام: وتستمر رغم تغير الحكومات.

الاستقلال: وتعني حرية اتخاذ القرار داخليًّا وخارجيًّا.

ثانيًا: تطور مفهوم السيادة في فرنسا:

وحيث أن فرنسا كانت في الأساس هي منبت التشكيل الأصلي لهذه النظرية، فمن المهم الإشارة باختصار إلى تطور تطبيقها على مر الزمن، وصولًا إلى العصر الحديث.

1. الثورة الفرنسية (1789):

أعلنت هذا الثورة انتهاء السيادة المطلقة للملك، وأكدت أن "السيادة تعود للأمة"، وهو ما تم تثبيته في إعلان حقوق الإنسان والمواطن، ولكي لا تكون "سيادة" على المشاع في أوضاع ما بعد الثورة، فقد حلت حكومة الثورة محل الملك في ممارسة بعض خصائص تلك السيادة.

2. الدستور الفرنسي الحالي (الجمهورية الخامسة – 1958)

يؤكد أن السيادة الوطنية تعود للشعب، ويمارسها من خلال الاستفتاء أو النواب المنتخبين.

ينص على احترام الالتزامات الدولية لفرنسا، ما يضع السيادة في إطار من المرونة القانونية.

ثالثًا: القضاء والسيادة – حالات التناقض:

رغم أن السيادة تفترض علو الدولة، إلا أن هناك حالات حدث فيها تعارض بين أحكام القضاء (الوطني أو الدولي) وممارسات السيادة، خاصة في السياقات التالية:

1. رقابة القضاء الدستوري على المعاهدات الدولية:

طبقًا للمادة 55 من الدستور الفرنسي، فإن المعاهدات التي تُصادق عليها فرنسا وتُنشر، تُعتبر أسمى من القوانين الداخلية، بشرط أن يُطبق الطرف الآخر نفس المبدأ.

لكن المجلس الدستوري الفرنسي له دور رقابي في تحديد ما إذا كانت المعاهدة متوافقة مع الدستور قبل المصادقة عليها.

إذا تبين له تعارضها مع الدستور، فلا يمكن المصادقة على المعاهدة إلا بعد تعديل الدستور.

مثال تطبيقي:

في قرار شهير عام 1999، اعتبر المجلس الدستوري أن ميثاق المحكمة الجنائية الدولية يتعارض مع الدستور الفرنسي، مما استدعى تعديلًا دستوريًّا للسماح بالتصديق عليه، وهو ما حدث بالفعل.

- تعارض القضاء الإداري (مجلس الدولة) مع بعض الالتزامات الدولية:

في بعض الأحكام، رفض مجلس الدولة الفرنسي (Conseil d'État) تطبيق التزامات دولية، إذا رآها تمس بالسيادة الوطنية أو النظام العام الفرنسي.

مثال: قضية "Sarran et Levacher" عام 1998، حيث حكم المجلس بأن الدستور يسمو على المعاهدات، خلافًا لترتيب المادة 55، عندما يكون هناك تعارض مباشر مع المبادئ الدستورية.

رابعًا: هل تملك الدولة حرية مطلقة في إبرام المعاهدات؟

بموجب مبدأ السيادة، تملك الدولة تقليديًّا الحق في إبرام المعاهدات، ولكن هذه الحرية ليست مطلقة:

1-  القيود الداخلية:

يجب أن تحظى المعاهدة بموافقة البرلمان أو الرئيس (حسب نوع المعاهدة، ووفقًا لنص الدستور).

تخضع لمراقبة دستورية قبل التصديق، إذا طُلب ذلك.

يجب أن لا تُخالف المبادئ الدستورية الأساسية، وإلا لزِم تعديل الدستور.

2 - الرقابة القضائية بعد التصديق:

القضاء الفرنسي لا يمكنه الحكم بعدم دستورية معاهدة مصادق عليها.

ولكن يمكنه تفسيرها أو تقييد تطبيقها إذا تعارضت مع قواعد آمرة في النظام القانوني الفرنسي.

3 .القيود الدولية:

يجب احترام القانون الدولي العام، خاصة المبادئ الآمرة، مثل حظر الإبادة أو العبودية.

المعاهدات تُفسخ إذا ثبت تعارضها مع هذه المبادئ.

خامسًا: السيادة في ظل العولمة والتكامل الأوروبي:

أدى انضمام فرنسا إلى الاتحاد الأوروبي إلى خلق تعقيدات إضافية في مبدأ السيادة على النحو التالي:

محكمة العدل الأوروبية تملك صلاحيات تفسير وتطبيق القانون الأوروبي الذي يسمو على التشريعات الوطنية.

ومع ذلك، تبقى الهوية الدستورية الوطنية (كما حددها المجلس الدستوري الفرنسي) خطًّا أحمر لا يجوز تجاوزه.

الخلاصة:

تطورت نظرية السيادة من مطلق غير قابل للجدل، إلى مفهوم مرن يتفاعل مع القانون الداخلي والدولي. وفي فرنسا، شكّل القضاء الدستوري والإداري نقطة توازن بين احترام سيادة الدولة والالتزام بالمعايير القانونية الدولية. ورغم أن الدولة تحتفظ بحقها السيادي في إبرام المعاهدات، إلا أن هذه الحرية ليست مطلقة، بل تخضع لرقابة داخلية ودولية تراعي الدستور، القضاء، ومبادئ حقوق الإنسان. إن السيادة اليوم، في ضوء تزايد الترابط الدولي، لم تعد حصنًا منيعًا، بل مسؤولية قانونية وأخلاقية.

وقد كان ذلك الاستخلاص هو ما استندت إليه في أحد الدفوع التي عرضتها، والتي سبق لي دراستها ومراجعتها أثناء ممارسة عملي كمدير لإدارة المعاهدات الدولية بوزارة الخارجية المصرية، وهو ما يتفق مع صياغة المادة 151 من الدستور المصري، خاصة في فقرتها الثالثة التي تغل يد الإدارة المصرية في الاحتجاج بمبدأ السيادة عندما يتعلق الأمر بأرض الإقليم المصري.

وأمام ذلك الدفع التاريخي – من وجهة نظري – لم تجد هيئة قضايا الدولة ما تحتمي به كي يصمد موقفها من التمسك بمبدأ السيادة الذي سقط جثة هامدة، في سابقة تاريخية وقانونية ينبغي أن تظل في سجل التطبيق المثالي الحديث لنظرية السيادة، بغض النظر عن المآل النهائي للاتفاق، الذي قد يكون موضوعًا لمقال آخر.
-------------------------------
بقلم : معصوم مرزوق
* مساعد وزير الخارجية الأسبق

مقالات اخرى للكاتب

سيادة الدولة.. بين النظرية والتطبيق