16 - 07 - 2025

الفرد القلق والنيوليبرالية الرأسمالية والسياسية

الفرد القلق والنيوليبرالية الرأسمالية والسياسية

التطورات فائقة السرعة للمجتمعات الأكثر تطورًا فى عالمنا أدت إلى تغيرات كبرى متلاحقة، وفي مدى زمني محدود ومكثف جدًّا فى الاكتشافات العلمية، والرقمية، والذكاء الاصطناعي التوليدي، وفي مفاهيم الزمن، والعمل، والأسرة، والفرد، والقيم الاجتماعية، والصداقة، والحب، والحواس، والدوافع الفردية (ما كان يطلق عليه سابقًا الغرائز)، وفي علاقة الفرد بالأسرة، والآخرين، وجماعات الرفاق، ومفهوم المجتمع، والطبقة الاجتماعية والأحزاب السياسية والحريات.

التغير في العلاقات الاجتماعية، نتاج التحولات داخل بنيات النظام الرأسمالي، وعلاقات الإنتاج، والانتقال من التقنيات التي سادت من الثورات الصناعية الأولى إلى الثالثة، إلى الرابعة التي ستشكل قطيعة مع مألوف حياة الفرد والمجتمعات والنظم الليبرالية السياسية في العالم فائق التطور.

بدأت هذه التحولات العنيفة منذ ثورة الطلاب في جامعتي كاليفورنيا بيركلي، والأهم في السوربون 1968، التي شكلت صدمة جيلية من الشباب تجاه شيخوخة السياسة في المجتمعات الغربية، وفي النظام الديمقراطي الليبرالي، وظهور بعض من أزماته، وخاصة في علاقة الفرد بالمؤسسات السياسية، ومدى تعبيرها عن اتجاهاتها السياسية المعلنة ومرجعياتها، وتمثيلها لمصالح الأفراد، أو للشريحة الاجتماعية، أو الطبقة التي ينتمي إليها على نحو ما ظهر، خاصة في عقد الثمانينيات من القرن الماضي، وبداياته والتغير في الأيديولوجيات الكبرى، والانتقال إلى أيديولوجيا حقوق الإنسان ومسارات الوسط، ثم إلى نمط وسطي بين اليمين واليسار على نحو ما تم فى عهد ميتران في فرنسا، ثم التحول إلى اليمين، وبروز أزمات الهجرة، وظواهر كراهية الأجانب -الاكزنوفوفيا -  ومعها اليمين المتطرف، واستثارته بعضًا من القومية والعرقية.

التغيرات التي أعقبت ثورة الطلاب بجامعة السوربون، سارعت من تطور الرأسمالية الأوروبية والأمريكية، وأدت إلى أدب جديد، وفي السينما - الموجة الجديدة -، وأيضًا في الفكر الفلسفي، وخاصة مع ميشيل فوكو، ومقارباته الفلسفية المتعددة حول الإنسان، والمؤسسات العقابية، والسلطة، والفرد والجنسانية والمراقبة والعقاب... إلخ.

التغير الأخطر في المجتمعات الغربية التي "تسود فيها شروط الإنتاج الحديثة، تقدم الحياة نفسها بكاملها على أنها تراكم هائل من الاستعراضات. كل ما كان يعاش على نحو مباشر يتباعد متحولًا إلى تمثيل (Representation). وذلك وفق فيلسوف الأممية الرابعة جى ديبور، الذي ذهب إلى القول يقدم الاستعراض نفسه فى آن واحد بوصفه المجتمع ذاته، وبوصفه جزءًا من المجتمع، وبوصفه أداة توحيد، وبوصفه جزءًا من المجتمع" (جي ديبور مجتع الاستعراض، ت: أحمد حسان) الاستعراض والتمثيل، كسمات للمجتمع الرأسمالي المتطور، أدى إلى تراجع كل ما هو حقيقي إلى تمثيل، ومن ثم إلى نزعة استهلاكية عارمة، انفجرت مع النيوليبرالية الاقتصادية مع مارجريت تاتشر، ورونالد ريجان، وكارلوس ساليناس دي غوتاري – المكسيك - وأولف بالمه – السويد - وبيل كلينتون، وهيمنة الشركات الكونية الضخمة المتعددة الجنسيات والشبكات المعقدة، والنظر إلى المجتمعات بوصفها محض أسواق وسلع، وهو ما أدى إلى تشيؤ الوجود الإنساني، وتسليع الإنسان الفرد، وهو ما أدى إلى مأزق الفرد الوجودي القلق والمنعزل، وتفاقم الأنوميا، والاغتراب الفردي.

لا شك أن نظرة الشركات الرأسمالية الكبرى في مجال إنتاج السلع والخدمات، ركزت على الاستهلاك الفردي، وتجدده فائق السرعة، بحيث يدور في دوامات عالم الاستهلاك المتجدد، ويحاصر بالسلع والخدمات، وهو ما أثر على الوعي الاجتماعي، والسياسي الجمعي، وأدى الإنسان المتشيئ والسلعي إلى تحول حرية الاستهلاك إلى أم الحريات، وإلى هيمنة هذه الشركات الرأسمالية النيوليبرالية العملاقة على النخب السياسية الحاكمة فى الولايات المتحدة وكندا، وأوروبا الغربية، وباتت مؤثرة على توجهات الأحزاب السياسية، وعلى السياسات الحكومية، وبرامجها في غالب المجالات.

مع الثورة الصناعية الثالثة، والرابعة ساهمت النخبة الرأسمالية العليا في العالم، في التأثير على مسارات العمليات الانتخابية، وفي دعم مليارديرات الرقمنة، والذكاء الاصطناعي التوليدي، وفي المجالات الإنتاجية، والخدمية الأخرى للمرشحين للانتخابات الرئاسية في أمريكا، ايلون ماسك وترامب في الولاية الثانية قبل الخلاف الذي نشب بينهما بخصوص قانون الضرائب الأخير، وأيضًا في سعي ماسك لتأسيس حزب أمريكا.

الليبرالية الديمقراطية باتت تعاني من أزمات كبرى، منذ السبعينيات، وخاصة من أزمة المحكومية  Crisis of Governability، والتي تتمثل في الفجوات بين مؤسسات الحكم الليبرالية وبين المواطنين، ومن ثم على الثقة بينهم، ومدى تمثيلها لمصالحهم وتعبيرها عنهم. تفاقمت هذه الأزمة مع الثورة الرقمية، على نحو ما ظهر مع حركة السترات الصفراء، وأيضًا مع ضعف الأحزاب السياسية التاريخية، ونقابات العمال. تم تعبئة وتنظيم السترات الصفراء من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، وانتقلت منها إلى الواقع الفعلي. ذهب أمبرتو إيكو، في "وقائع مجتمع سائل" في إشارته لأزمة الأيديولوجيات والأحزاب السياسية "قال أحدهم إن الأحزاب السياسية باتت سيارات أجرة يركبها قائد غوغائي، أو زعيم مافيا يتحكم بالأصوات، ويختار ركوبها بسلاسة وفقًا لما تجود به الفرص، وهذا ما ينزع وصمة العار عن الانتهازيين، لا بل تجعل تبدلاتهم مفهومة أيضًا. فليس الأفراد فحسب، بل المجتمع نفسه يعيش ضمن مسار ينحو إلى عدم الثبات متعمدًا". ( ص 10).

لا شك أن التطورات الرأسمالية النيوليبرالية أثرت في تماسك المجتمعات، وفاقمت من وحدة الفرد، وهو ما سبق أن أشار إليه عالم الاجتماع البارز زيجمونت باومان فى كتابه "المجتمع الفرداني" –ت د. محمود عبدالله - وانتقال العلاقات الاجتماعية من النزعة الجمعية إلى التركيز المكثف على الفردانية والفرد ذاته، وبات يعيش فى حالة من القلق الوجودي، دونما مرجعيات، أو سرديات كبرى، بعد انهيار هذه السرديات، وتشظيات وتذري أنماط الحياة وتفاصيلها في مجتمعات عالم ما بعد الحداثة، وما بعد بعدها.

تفكك الروابط والعلاقات الاجتماعية في ظل الفردانية المفرطة، والفرد القلق، وأدواره المتعددة، أثرا سلبًا على تراجع أنظمة التنشئة الاجتماعية، ومؤسساتها - الأسرة والدولة -، وتمددت العزلة الفردية، وظواهر التهميش والاستلاب الاجتماعي.

ساهمت الثورة الرقمية في المزيد من العزلة عن الواقع الاجتماعي الموضوعي، ومن ثم حدة وقسوة حالة الوحدة القلقة مع تزايد البطالة، وأثر عالم الإناسة الروبوتية على أسواق العمل وحلول الروبوتات والذكاء الاصطناعي التوليدي، وحلولهما المتدرج وفائق السرعة محل الفرد القلق الوحيد في عديد من مجالات العمل.

هذا القلق السوسيو-نفسي جعل الفرد لا يثق فى المؤسسات السياسية الليبرالية، وأيضًا في فرض التزام عليه يحاصره بالمسؤولية الفردية الثقيلة والضاغطة والكثيفة، وأن النجاح والفشل في الحياة والعمل هما نتاج لمسؤوليته الفردية في هذا الإطار المفكك لأنسجة الروابط الاجتماعية والمهشمة أيضًا، وأزمات الثقة بين الفرد القلق المهووس بالاستهلاك والوحدة، ومسؤوليته المفرطة عن حياته، وثرواته. ذهب أمبرتو إيكو إلى أنه "في ظل أزمة مفهوم المجتمع برزت فردانية لا يكبح لها جماح، حيث لا أحد رفيق الدرب لأحد، وإنما خصم ينبغي الحذر منه". زعزعت هذه "الذاتية" أسس الحداثة، وجعلتها هشة، ونجم عن ذلك وضع تتقدم فيه أي نقطة مرجعية، ويذوب فيه كل شيء بما يشبه السيولة. يفتقد اليقين القانوني (القضاء يوصف بأنه عدو)، فلا يتبقى من حلول أمام الفرد الفاقد للمرجعية إلا الظهور بأي ثمن، الظهور باعتباره قيمة. فاقم من نظرة إيكو لكتاب زيجمونت باومان، ثورة وسائل التواصل الاجتماعي، في أثرها على الفرد القلق، ووضعية السيولة الاجتماعية،  وأزمات المجتمع الأكثر تطورًا وسيولة، على نحو أدى إلى هيمنة الرغبات العارمة في الظهور سعيًا وراء اعتراف الآخرين بوجوده، وهو ما يفاقم من أزمة الوجود الفردي في الحياة، وخاصة في ظل كثافة القلق الوجودي من صدمة التحول من الأناسة الروبوتية إلى ما بعد الإنسان، ونهاية عالم السياسة الحداثي وما بعده إلى عالم مختلف تمامًا.
-----------------------------
بقلم: د. نبيل عبدالفتاح
* نقلا عن الأهرام

مقالات اخرى للكاتب

الفرد القلق والنيوليبرالية الرأسمالية والسياسية