منذ أسبوعين تقريبا تم ترحيل مواطن مصري من مطار واشنطن لأنه بدون قصد ركل كلباً بوليسياً بسبب خوفه من الكلب الذي أنشب أظافره في حقيبة المسافر التي تحتوي على مكونات المحشي المصري بعدما شم سعادة الكلب رائحتها للمرة الاولى في حياته، وربما ظن سعادته أن بالحقيبة يورانيوم منتج حديثاً تم تخصيبه في مفاعل نووي الست (بلابل) أخت المواطن المصري وبمساعدة أجهزة الطرد المركزي السرية في مطبخ (أم فتحي) زوجة الرجل الذي ركل الكلب الذي يفتش الحقائب في المطار. على الفور تم ترحيل المواطن المصري الذي خسر تأشيرة السفر، والتي من المؤكد قد دفع فيها تحويشة عمره، وبالتأكيد لن يستطيع دخول بلاد العم سام مرة أخرى.
وعلى الفور تم نقل معالي الكلب للمستشفى لفحصه وتلقي العلاج النفسي المناسب بعد هول الصدمة. تفاعل الدهماء والعنصريون من رعاة البقر مع الحادث، ورأوا أن ترحيل المسافر لم يكن كافياً، وكان يجب توقيع عقوبات أشد وطئاً عليه بما في ذلك السجن المشدد أو قصف منزله بطائرات بي ٢ والقاذفات الاستراتيجية بي ٥٢ باستخدام القنابل الخارقة لأكوام القش و(أقراص الجِلة المصنوعة من روث البهائم) المرصوصة فوق سطح المنزل. بعد ترحيل المواطن - المطرود من بلاد الديمقراطية وحقوق الإنسان - بعدة أيام وقع حادث مروري أليم في قرية من نجوع كفر بهانه ونتج عنه وفاة ١٨ فتاة في عمر الزهور وسائق الحافلة المكتظة بالضحايا. الفتيات وكلهن طالبات متفوقات في مراحل مختلفة من التعليم من فئة الكادحين والغلابة ومن الأسر المطحونة التي تعيش تحت خط الفقر بمراحل عديدة. تعيش الفتيات في مجتمع ريفي كان في الماضي لا يسمح للفتيات بالعمل في الحقول، ولكنه اضطر لذلك تحت وطأة العوز والفقر المدقع.
معظم الفتيات تحت سن ١٨ سنة مما يفتح الأبواب للحديث عن عمالة الأطفال، والاستغلال التجاري والاقتصادي لهذه الفئة المقهورة والمستضعفة التي تعمل في مقابل دولارين ونصف في اليوم الكامل. الفتيات من الأرياف وبالتالي لا يمكن لهن جمع الألوف من الدولارات عن طريق الرقص الإباحي في مقاطع التيك توك وإعلانات الإنترنت الوقحة، ولكنهن فضلن العمل الشاق في الحقول والمزارع في سبيل لقمة العيش وتوفير حياة كريمة شريفة في حدها الأدنى ودفعوا ثمن ذلك من دمهم المسفوح على الأسفلت وأشلائهم المتناثرة بين حطام الميكروباص الذي كانوا يستقلونه وجماجمهم التي طحنتها عجلات الشاحنة وأرواحهم، التي صعدت إلى السماء بحثاً عن مكان آمن ورحمة واسعة.
تفاصيل الحادث بالكامل على مواقع التواصل ومعه إحصائية رسمية تؤكد وفاة ٥٢٦٠ شخص وجرح ٧٦٠٠٠ شخص في حوادث الطرق في ربوع كفر بهانة في عام ٢٠٢٤ وحده، علماً بأن هذا العدد من الضحايا أكثر من عدد المجاهدين الذين استشهدوا في معظم غزوات المسلمين في صدر الاسلام. والجدير بالذكر أن عدد الموتى في إسرائيل بعد حربها مع إيران، التي استمرت ١٢ يوما قصفت فيها المدن الإسرائيلية بمئات الصواريخ قد بلغ ٢٨ شخص فقط معظمهم من كبار السن. المهم في الأمر أن سائق الشاحنة الذي قتل الفتيات لن يتم ترحيله مثلما حدث مع المواطن المصري الذي أغضب الكلب الأمريكي وتم ترحيله من المطار. ومن المؤكد أن هذه الواقعة تحتاج لتدخل من أعلى السلطات. وهناك شائعات ليست كلامي ولا كلام أم خميس صاحبة كشك السجائر في قريتنا النائية المنسية - يدعي مروجوها بأن شلة الفاسدين والمرتشين - الذين استلموا طريق الموت رغم عيوبه لن يرحلوا، مثلما حدث مع المواطن الذي ركل سعادة الكلب الأمريكي.
وحتى لو كان الطريق الذي تم رصفه منذ سنوات معدودات سليماً من الناحية الفنية ومطابقاً للمواصفات، فلن يرحل من سمحوا للشاحنات ذات الحمولات العملاقة بالمرور على الطريق وتدميره في مقابل (ادفع بالتي هي أحسن أو شخلل عشان تعدي). هذا ليس كلامي، ولكن بعض ما يقوله المساطيل على المقاهي. ومن المؤكد أن عمدة كفر بهانه وشيخ البلد وشيخ الخفر والنواب لن يرحلوا حسب كلام الناس، وبالتأكيد فإن معالي المسؤول الكبير قوي المتخصص في رصف الطرق في كفر بهانه لن يرحل، ولن يرحل كذلك كبار المسؤولين في الشركة التي رصفت الطريق ثم اكتشف البعض فجأة أن به عيوبا فادحة. كل هؤلاء لن يرحلوا حسب الشائعات المنتشرة في الكفر وهذا ليس كلامي بالطبع. ومن المؤكد أن السادة المسؤولين الباشاوات الذين يقضون الإجازة الصيفية والأوقات الجميلة حاليا على أفخم الشواطئ وفي الكمباوندات - هؤلاء بالذات لن يرحلوا ولو قتل جميع سكان الكفر على الطرقات وفي عربات السكك الحديدية المحترقة وفي العبارات النيلية الغارقة - هؤلاء لن يرحلوا كما يقول عامة سكان الكفر لأنهم بالطبع لن يهتموا بموت ١٨ فتاة من بنات الفلاحين الغلابة الحفاة العراة.
هؤلاء هم السلطة، والعسس الليلي معهم وكهنة الإعلام يدافعون عنهم حسب الشائعات، وهذا ليس كلامي ولا يمكنني تأكيد هذه الادعاءات. وطبعا القانون سوف يطبق على أصغر شخص تورط في الحادث وهو السائق، ومن المؤكد حسب ما يتداوله عامة أبناء الكفر أن السائق فاشل وبيلعب قمار وبتاع نسوان وحرامي ومرتشي ومهرب وشمام هيروين ويتعاطى المخدرات والبرشام والحشيش الصناعي - الذي تروج له وتبيعه مقدمة البرامج المسجونة حاليا - وهو مدمن بانجو واستروكس مثل جميع سائقي الشاحنات الأخرى التي تتسبب غالبا في الحوادث ودهس الناس في البلاد.
الآن تذكرت قانون ساكسونيا الذي كان يُطبق على الفقراء في العصور الوسطى، وذلك بقطع رقابهم عند ارتكابهم جرائم صغيرة بينما كان يحكم على كبار القوم بضرب ظلهم بالسيف عند ارتكابهم جرائم بشعة. أمرنا الله تبارك وتعالى أن نحكم بين الناس بالعدل، وليس بالقانون لأن القانون لا ينصف الفقراء في كفر بهانه ولكنه يساند الأثرياء أصحاب النفوذ حسب الشائعات ولا يمكنني تصديق أو تكذيب هذه الأقوال المغرضة. لكن يتضح مما حدث أن ثمة فوارق شاسعة - وسامحوني على قول ذلك - بين سعادة الكلب الأمريكي وبنات كفر بهانه الضحايا الأبرياء. يقول الخبثاء والمغرضون والمضللون أن في بلاد الصقيع ثمة قانون في المطارات يحمي الكلاب وفي كفر بهانه قانون السير على الطرقات غالباً ما يحمي الذئاب.
لكن من وجهة نظري الشخصية أن ما حدث ليس مسؤولية رجل واحد مهما كان منصبه لأن المسألة أكبر من مجرد حادث مأساوي ولا تتعلق على الإطلاق بالطريق نفسه ومدى صلاحيته ولا بالشركة المسؤولة عن إنشائه أو من استلموا الطريق، فأنا أشهد وأقسم بالله أن ثمة تطور غير مسبوق في شبكة الطرقات في البلاد ليس له مثيل من قبل، ولكن المعضلة تتعلق بثقافة شعب اعتاد جزء كبير منه بما في ذلك بعض المسؤولين على الفهلوة والفوضى والعشوائية وحكومة لا تراعي العدالة والمساواة في تطبيق القانون، ولكنها تطبقه حسب أهوائها علاوة على انتشار الفساد بين بعض فئات الشعب الذين لا يهمهم سوى جمع المال على حساب المواطن والوطن. هنا لب المشكلة.
من ناحية أخرى يقول أحدهم (إذا أردت أن تعرف مدى تطور أو تحضر أي بلد فيجب أن تسير في شوارعها وطرقاتها). لو كنت تعيس الحظ وسرت بسيارتك الخاصة على أي طريق زراعي في الكفر في صباح أي يوم ولا سيما في نهاية الأسبوع، فسوف ترى ما لا عين رأت: طوفان لا ينتهي من مختلف أنواع العربات حيث يمتلئ الطريق بعربات النصف نقل المحملة بالفاكهة تسير بجوارها قافلة ممتدة من عربات الكارو المحملة بالبرسيم، يتزاحم معها عدة حافلات مكتظة بالركاب وبسبب الزحام يتشاجر سائقو الميكروباص مع سائقي سيارات الربع نقل المحملة بأقفاص الخضروات ويتعارك سائقو التوكتوك الذين يسيرون في جميع الاتجاهات مع سائقي التروسيكلات الناقلة للعمال، بينما يمر بصعوبة من بين سيارات الملاكي عدد لا بأس به من الدراجات النارية وبعض المشاة العابرين للاتجاه الآخر وبعضهم من القرويين الذين يسحبون خلفهم بعض الجاموس والأبقار والعجول ومن خلفهم تتبختر بعض الحمير التي ضلت الطريق.
ثم يخرج فجأة من بين الحقول جرار زراعي يقتحم موكب السير عنوة ويجر وراءه مقطورة محملة عن آخرها بالحصى والزلط الذي يتساقط ويتطاير في الهواء، بينما تحاول بعض الشاحنات الثقيلة المحملة بالحاويات العملاقة أو التي تجر خلفها صهاريج الوقود، تخويف الجميع وترويعهم واجتياز جميع المركبات بالمرور من فوق حرم الطريق الترابي الجانبي. المشهد عبثي ومروع بكل معنى الكلمة ولكن سكان كفر بهانه اعتادوا كل صباح رؤية هذه الفسيفساء المرعبة من جميع أنواع العربات والسيارات والشاحنات بأنواعها المختلفة –كارو، ملاكي، نقل، نصف نقل، ربع نقل، توكتوك، تروسيكل.... الخ- حيث يتسابق الجميع ويتزاحمون ويتشاجرون ويتشاتمون ويتصادمون من الأمام والخلف والأجناب، وسط تسونامي مرعب من الضجيج والضوضاء وأصوت أبواق السيارات والكلاكسات. وبعد كل هذا الفزع وهذه الفوضى العارمة لا تريدون حوادث---- ما لكم كيف تحكمون؟
(طابت اوقاتكم)
----------------------------
بقلم: د. صديق جوهر
* أكاديمي وناقد