هذا المقال كتبته منذ سنوات ، وأرسلته إلي أحد رؤساء التحرير ، بناء علي طلبه ، ولكنه رفض أن ينشره ، ولم يذكر لي سبباً مقنعاً .. فهل يستطيع أحد أن يفهم اللغز ؟؟ .. وفيما يلي نص المقال طبق الأصل :
لم أفهم كيف جادلني الصيدلاني الشاب عندما ذكرت له أن الدواء الذي يقدمه لي قد انتهت صلاحيته " Expired " ، فقد قال لي بضيق أن المادة الحيوية تظل صالحة لمدة عام بعد انتهاء الصلاحية ، سألته عن حكمة وضع التاريخ إذن ، ولماذا لم تضع الشركة التاريخ الحقيقي ، فهز كتفيه وزفر وهو يجذب علبة الدواء من يدي قائلاً : " ناس حمير يا سيدي!! " .. ولا أظن أنه سيكون من المناسب أن أروي ما دار بعد ذلك ، فهو كلام لا يصح لمن هم أقل من 18 عاماً ...
حكيت القصة لصديقي الفيلسوف ، فنظر لي بنظرته السقراطية ، وتنحنح في تؤدة ، واتخذ هيئة مجلسه الفلسفي ، وقال لي : " لم يخطئ الصيدلاني ، الصلاحية نسبية بالفعل " ، وعندما ناقشته كي اتخلص من جهلي ، تبسم الرجل بحكمته المعهودة ، ثم ربت علي كتفي كأنني حالة مستعصية ، ثم بدأ يشرح لي :
أنت مثلاً تعيش رغم انتهاء صلاحيتك ، وإذا نظرت للناس من حولك ستكتشف أنهم بلا استثناء بلا صلاحية ، ومع ذلك يعيشون ويأكلون ويشربون ويتناسلون ، وإذا سألت عن الصلاحية فهي بالتعريف القيمة المضافة ، أي الفائدة المحققة من أي كيان بالإضافة لمجرد الوجود ، فإذا انعدمت هذه الفائدة أو القيمة المضافة ، فأن ذلك الكيان يعتبر منتهي الصلاحية ، فكيف تريد أن تطبق علي الدواء ، ما ترفض أن تطبقه علي نفسك ؟؟ ...
ورغم سخونة مخي الذي كان يدور مع الكلام متأرجحاً ، جادلته بأن الدواء يمكن إلقاؤه في سلة المهلات إذا انتهت صلاحيته ، ولكن لا يصح ذلك مع الإنسان .. قلت له أن قيمة الإنسان تتمثل أيضاً في وجوده حتي ولو انتهت صلاحية مادته الحيوية ، إلا أن الصديق الفيلسوف ، وقد اعتاد مني علي هذه المناوشات ، ضحك متباسطاً ، ثم قال :
أنا لا أعني التركيب الحيواني للوجود ، وجودك ووجودي ووجود الآخرين ، وإنما أعني صلاحية فعالية هذا الوجود ، لو دققت ستجد أن أختام تواريخ الصلاحية منتهية منذ سنوات ، أي أنه لو صح التخلص من الدواء منتهي الصلاحية ، فأنه ينبغي أيضاً التخلص من هؤلاء البشر الذين انتهت صلاحيتهم ، ولكن ذلك لا يحدث لسبب بسيط هو أحداً لا يمتلك الشجاعة كي يعترف بانتهاء صلاحيته ، ثم من هو المسؤول عن وضع أختام انتهاء الصلاحية ؟ ...
لم أعرف بماذا أجيبه ، ولكنني قلت له أن في حالة الدواء فأن الشركات التي تنتجه هي التي تحدد تاريخ الصلاحية ، وعليها تقع المسئولية القانونية إذا لم تفعل ذلك ، ثم أن الجهات المسؤولة عن صحة الناس تراقب ذلك بدقة ، وقبل ذلك وبعده فأنه من المحقق علمياً أن الدواء منتهي الصلاحية يسبب الضرر فعلاً ... هز الصديق الفيلسوف رأسه في حزن واضح وهو يقول لي :
تريد أن نعلق علي رقاب الناس لوحة تحدد انتهاء تاريخ صلاحيتهم ؟ .. وبفرض أن ذلك جائز التحقيق ، هل سيعترف إنسان بأنه Expired ؟ .. أن كل شيئ حولك Expired ، مقالات الصحف ، الأغاني ، العواطف ، التاريخ ، النبل والكرامة ، حتي الأحلام ..Expired .. ولكن لا يوجد ضرر ، والأمور علي ما يرام .. مشكلتي معك أنك تتفادي الحقائق ، وهذا دليل آخر علي أنك Expired ...
-----------------------------
بقلم: معصوم مرزوق
* مساعد وزير الخارجية الأسبق