أنا هنا لا أتحدث عن واقعة إهانة معلم/ معلمة بعينها، بل ظاهرة يجب التصدي لها، فمنذ شهور تعرضت معلمة للصفع على الوجه والركل بالإضافة إلى السب والقذف من طالبة في إحدى لجان الإعدادية بالهرم، ولم تقتصر هذه الظاهرة على تجاوز البنين في اللجان، بل شملت البنات أيضًا. وأنا في الحقل التربوي منذ ما يقرب من ثلاثين عامًا، وأعتقد أن ما يظهر على شبكات التواصل الاجتماعي لا يعد نصف بالمئة فقط مما يجري في الواقع. هذه الظاهرة تحتاج علاجًا حقيقيًّا للوقوف على الأسباب قبل المبالغة في العقاب. لا أقصد التهاون مع الأخطاء والمخطئين.
في مشهد ينتمي إلى خانة الكوابيس المرعبة، لا الواقع، تداولت وسائل التواصل الاجتماعي مقطعًا مصورًا لمُعلمة مصرية تتعرض للاعتداء الجسدي واللفظي من قبل عدد من النساء – أمهات لطالبات في إحدى لجان الثانوية العامة – فقط لأنها رفضت تمرير الغش داخل اللجنة، وقامت بواجبها التربوي كما يجب. لم تكن المعلمة ترتكب جريمة، بل كانت تؤدي رسالتها، تلك الرسالة التي صدّعوا رؤوسنا بها دهورًا: "كاد المعلم أن يكون رسولًا". لكن يبدو أن الرُسل في هذا الزمن باتوا بلا حماية، بلا حصانة، بلا كرامة. وكاد المعلم أن يكون قتيلًا.
المقطع الذي يوثق الاعتداء، وتكراره في برامج "التوك شو" والتدوينات الغاضبة، كشف حجم الانهيار الأخلاقي والتربوي الذي بات يغلف المشهد التعليمي المصري. لم يعد الغش ظاهرة عرضية، بل أصبح "حقًّا مكتسبًا"، والغريب أن الدفاع عنه لا يأتي فقط من الطلبة، بل من أولياء أمور، من المفترض أنهم قدوة، لا حاملي عصيٍ وألسنةٍ مسمومة.
ما حدث لتلك المعلمة لم يكن اعتداءً شخصيًّا فحسب، بل كان اعتداءً مباشرًا على فكرة التعليم، ومؤشرًا على مقتل التربية على أيدي ممثليها الأوائل (الوالدين)، واعتداء على هيبة المدرسة وداخل أسوارها، وعلى قيم الدولة ذاتها التي لم تستطع أن تحمي معلميها من البلطجية. لم يعد الغش فقط خرقًا للنزاهة، بل تحوّل إلى عقيدة متكاملة لها أنصارها، ومنصاتها الإلكترونية، وأدواتها عالية التقنية (سماعات دقيقة، شبكات اتصال، جروبات واتساب تُموّل بآلاف الجنيهات). أمام هذا المشهد، يصبح أداء المعلم الأمين "جريمة" في نظر الغشاشين، ويُنظر إلى الانضباط كأنه اعتداء على الحقوق!
لكن الأسوأ – وربما الأخطر – هو أن الواقعة لم تنتهِ عند الاعتداء، بل اتخذت منحًى مرعبًا حين تنازلت المعلمة عن المحضر. التنازل – في مثل هذه الظروف – ليس إغلاقًا لملف، بل فتحٌ لباب الابتزاز والترهيب. لا أحد يضمن أن المعلمة تنازلت بإرادتها الحرة؛ فالكل يعلم كيف يُمارس الضغط، وكيف يلوّح الخطر في الخفاء، وكيف يُقايض الإنسان على أمانه مقابل صمته. حين لا تحمي من يدافع عن القانون، تكون قد سمحت بانتصار الغابة.
أتوجه بكلامي إلى كل من يهمه الأمر في وزارة التربية والتعليم، وغيرها من الوزارات بأن "التنازل لا يعني سقوط الجريمة"، لأن الواقع أقسى من اللوائح. إن لم تُحاسب المعتديات محاسبة صارمة، وإن لم يُحمَ المعلم حماية فعلية، سنجد مزيدًا من اللجان يتحول فيها المراقب إلى كبش فداء، ومزيدًا من الأسر ترى في الغش لا انحرافًا، بل وسيلة للبقاء وطريقة للحصول على مستقبل آمن لأبنائهم.
كيف نُقنع طالبًا بقيمة الصدق وهو يرى أمه تضرب معلمته؟ كيف نحدثه عن الوطنية وقد نشأ في بيئة تقدس التزوير وتبرر للغش؟ كيف نحلم بجيل يبني مصر، بينما تتكفل العشوائية والبلطجة بهدم آخر ما تبقى من قيمها؟
إننا نعيش مأساة حقيقية. المعلم، رمز العقل، صار يُهان في الشارع، وفي اللجنة، وفي وسائل الإعلام، ويُطالب بالصمت والرضا! أما من يزوّر ويغش ويتعدى على القانون، فله الغلبة، والصوت الأعلى، والحماية الجماهيرية!
حين يُهان المعلم، تنهار الدولة. حين يُضرب من يحمي النزاهة، تُكافأ الجريمة. حين يُرغم صاحب الحق على الصمت، ينتصر الباطل لا محالة.
إن قضية هذه المعلمة ليست حالة فردية، بل تجسيد رمزي لسقوط أخلاقي جماعي، لفشل المنظومة التعليمية، ولمجتمع بات يرى في الغش طريقًا للنجاح، وفي الصدق تهديدًا للنظام. إننا لا نواجه أزمة تعليم فقط، بل أزمة ضمير جماعي، أزمة قيم وطن.
ولعلّ السؤال الأشد مرارة الآن: إذا كانت المعلمة تُسب، بل وكادت تُضرب في امتحان الثانوية العامة لأنها منعت الغش، فمن يحمي الحقيقة إذًا؟ ومن يُعلّم أبناءنا الشرف؟ هل نقول: وداعًا لرسالة الأنبياء، ولنرحب مجبرين برسالة الخزي والعار؟!
----------------------------
بقلم: هاني منسي
* كاتب وناقد