04 - 07 - 2025

"لعنة السنة السابعة وما بعدها في حكم مصر"!

تمهيد

في عام 1955م، قدَّمت السينما الأمريكية فيلماً رومانسياً كوميدياً اسمه "هرشة السنة السابعة" "The Seven Year Itch، قامت ببطولته "مارلين مونرو"، و"توم إيويل"، وأخرجه "بيلي وايلدر". يدور الفيلم حول فكرة (افتراضية) أنَّ العلاقات الزوجية يصيبها نوع من التوتر، والتصدع، بعد مرور سبع سنوات من الزواج، حيث يبدأ الطرفان، أحدهما أو كلاهما، في الشعور بعدم الرضا، وبالملل، وبالرغبة في التغيير. في السنة السابعة وما بعدها، يبدأ التوتر بعد الاستقرار، وقد تظهر نزعات للخيانة أو الانفصال، ويشعر الطرفان أو أحدهما بالاختناق، ويبدأ الحنين إلى فترة "ما قبل الزواج". ويحدث أن يفقد أحدهما أو كلاهما الإثارة والانبهار، ويبدأ كلُّ طرف في تقييم الطرف الآخر، ويحمَّله المسئولية عما وصلت إليه العلاقة.. وليس شرطاً بالطبع أن تتحقق كلُّ هذه المشاعر معاً فيما يشبه الزملة Syndrome، بل يمكن أن تحدث منها بعض الأعراض المتفرقة Symptoms. وقد ذاع مصطلح "هرشة السنة السابعة" ذيوعاً كبيراً، واشتهر شهرة واسعة بعد هذا الفيلم، وانتقل من مجال السينما والأدب إلى مجالات أخرى عديدة، وتمت دراسته "كفرضية علمية" في كثير من العلوم الاجتماعية والإنسانية.

ورغم أنَّ الفكرة (لعنة/"هرشة" السنة السابعة) هي مجرد افتراض نظري لم يتأكد بعد بشكل علمي، مثله مثل فرضية "أزمة منتصف العمر"، وكون الرقم سبعة (7) رقماً رمزياً غير ملزم؛ تحدث المشكلات الجوهرية قبله، وقد تحدث بعده، فإنَّ هذا الافتراض يجد له ظلالاً من الحقيقة، وأطيافاً من الواقعية، في أنظمة الحكم العربية بصفة عامة، وفي نظام الحكم المصري بصفة خاصة. الفكرة الرئيسة هنا أنَّه بعد سبع سنوات من حكم أيّ ملك أو رئيس (في مصر) يتوقف الأداء الجيد له، ويدخل في طور الأداء السلبي، وتبدأ مرحلة النفور المتبادلة بين الحاكم والمحكومين، سواء كان ذلك بشكل ظاهر ومباشر، أو مستتر وغير مباشر، وتحدث جفوة تتحول إلى فجوة واسعة يصعب ردمها أو تجسيرها.. في السنة السابعة من الحكم وما بعدها، تتضاءل الشعبية، وتتآكل الكاريزما، وتعلو الأصوات المعارضة، ويزيد الاحتقان، وينتشر الفساد، ويميل الحاكم إلى إصدار قرارات استبدادية أو غير مدروسة، ويبدأ في الانفصال نفسياً وجسدياً عن واقع الناس الحقيقي. في هذه السنة السابعة وما بعدها من سنوات الحكم، قصرت أم طالت، تنتهي مرحلة "شهر العسل" الرئاسية، وتبدأ مرحلة "الأشغال الشاقة" المؤبدة..

الأعراض والمظاهر

في السنة السابعة في الحكم وما بعدها، يبدأ الحاكم في الشعور بالاستحقاقية غير المبررة، وبجنون العظمة (ما علمت لكم من إله غيري)، وبأنه صاحب فضل على الشعب (إن أنتم إلا عبيد إحساناتنا)، و(أنا اللي علمتكم العزة والكرامة)، وبأنه لا يتكلم إلا حقاً، ولا ينطق إلا صدقاً (ما أريكم إلا ما أرى، وما أهديكم إلا سبيل الرشاد). في هذه المرحلة (السنة السابعة وما بعدها) يحدث التحول التدريجيّ للحاكم إلى مستبد حقيقيّ، لا معقب على قراراته، ولا منازع لسلطانه.. ويبدأ في الشعور بأنَّه "هبة" لمصر، وبأنَّ استقرار البلد، وأمنها و"البركة" التي تتمتع بها وحلت عليها، متوقف على استمرار وجوده في الحكم وعلى أمنه الشخصي، ولذا يبدأ في طمأنة الشعب الخائف (معكم ما دام في الصدر قلب ينبض).

وفي هذه المرحلة، تحدث المفارقة أيضاً، إذ يشعر الحاكم بأنَّ الشعب عبء عليه، وبأنه لا يستحقه، ويبدأ في البحث عن دائرة أوسع للنفوذ والشعبية، فحاكم مصر لقب ضيق يجب أن يضاف إليه قائد العرب، أو زعيم الأمة العربية، أو صوت الحكمة في الشرق الأوسط، وغيرها، وتحدث علاقة طردية بين عدد سنوات الحكم، وشدة الرغبة في توسيع ألقابه، ودائرة نفوذه الإقليمي والدولي... وفي هذه المرحلة، يضيق الحاكم بأية معارضة، ويعتبرها عملاً غير مبرر، واعتداءً على كاريزمته، وجحوداً من الشعب! ويبدأ المحيطون بالحاكم من الدائرة الضيقة في تغذية هذا الشعور لديه، وإبعاد كل ما يناقض هذا الشعور عنه..

في هذه المرحلة، يبدأ المنتفعون في الظهور، وفي الحديث باسم الحاكم، وفي التوحد مع سياساته.. ويبدأ المنتفعون في بناء أحزاب سياسية موالية، وكيانات اقتصادية داعمة، و"تنسيقيات" مؤيدة على طول الخط. المهم في كل هذه المسميات أنَّ مصر جزء منها، وأنَّ أصحابها هم "رجال كل العصور"، و"الآكلون على موائد كل الحكام"... في هذه المرحلة، يبدأ ظهور شخصيات على السطح مدعومة من دول أخرى (شقيقة)، تتحدث بصراحة عنها، وتعلن انحيازها لها، وتكتسب قوة من الحديث عنها، ووضعاً خاصاً محميَّاً ومحصَّناً (فيما يشبه عودة الامتيازات الأجنبية). وفي هذه المرحلة، يحرص المسئولون على اختلاف درجاتهم، وموظفو الدولة على اختلاف مسمياتهم الوظيفية، على دعم الحالة الموجودة، وعلى مساندتها بقوة، لأنَّ أيّ تغيير فيها يمس مصالحهم الشخصية، ويؤدي إلى تغييرات غير محسوبة، وغير مأمونة العواقب، بالنسبة لهم.

في هذه المرحلة، يبدأ الحاكم في التخلص من زملاء المشوار ورفاق الطريق، ومن الذين ساعدوه في سنواته الأولى، وتسوء اختيارات الحاكم لمن يساعده، وتتقلص البدائل المتاحة أمامه، ويبدأ في التفكير العشوائي.. في هذه المرحلة، وعلى حدّ تعبير الدكتور أحمد عكاشة (2022، ص.ص. 151- 152) "يحدث جمود في الفكر، وعدم قدرة على التغيير، والإحساس بالتوحد مع المكان، بمعنى أن رئيس الجمهورية مع طول بقائه في منصبه يأتي إليه إحساس بأنه لا يعمل لمصلحة الشعب، وإنما يعمل للبقاء في الحكم أطول مدة ممكنة، فيسخر كلَّ الأجهزة الأمنية والوزارات السيادية لخدمة بقائه في الحكم، فضلاً عن أنَّ استمراره هذه الفترة الطويلة يجعله يشك فيمن حوله، متخيلاً أنَّ الكل يحاول الوصول إليه بهدف قتله أو اغتياله، وأنَّ من حوله قد يدبرون المكائد والمؤامرات للخلاص منه وقتله، وتصبح نصف منظومته الفكرية في حياته عن كيفية الهروب من الاغتيال والقتل.... إذاً، في الطب النفسي ما يؤكد أنَّ من يستمر في السلطة فترة طويلة يحدث تغيير تام في شخصيته، تكون التغييرات غير قابلة للعلاج، لذا، اتجهت كلُّ دساتير العالم إلى عدم التمديد إطلاقاً أكثر من ولايتين في الحكم".

في هذه المرحلة، تكون كثير من اختيارات الحاكم لمعاونيه ولأصحاب المناصب العامة غير موفقة، وجزء كبير منها يكون تسديداً لفواتير ولاء سابقة، أو كسباً لتأييد كيانات جديدة ذات مصالح اقتصادية مع الدائرة القريبة من الحاكم، وقد يكون جزءاً منها بسبب رفض كفاءات معترف بها المشاركة في سياسات هذه الفترة، أو أنَّ الحاكم يريد أشخاصاً يطبّقون سياساته بشكل حرفي، وينفذون أوامره بدون نقاش، ويلبون رغباته بدون تفكير، ويتلقون النقد بالنيابة عنه، فيما يشبه لوحات النيشان.. وفي هذه المرحلة، يعتقد الحاكم بشدة أنَّ اختياراته جزء من شرعيته، وأنَّ أيَّ انتقاد لها هو تعدٍ على هيبته وكرامته، حتى ولو كانت الاختيارات خاطئة بشكل واضح. يُقال، والعهدة على الأستاذ محمد العزبي في كتابه الرائع "هل يدخل الصحفيون الجنة؟" (2022، ص 227)، إنَّ "الدكتور عاطف عبيد اكتشف، بعد أسابيع من تعديل وزارته (1999- 2004)، أنَّ أحد وزرائه كان قد دخل مستشفى للأمراض النفسية، فاحتار، وخاف، ولم يجد حلاً إلا أن يبلغ الرئيس بنفسه، قبل أن يصل إليه الخبر من مصدر آخر. فوجئ (عبيد) برد الفعل، وضحكة مبارك المجلجلة يقول له: "خليه يمكن ينفع أحسن من الوزراء العاقلين"!

في السنة السابعة وما بعدها من سنوات في الحكم، يتحول الحاكم إلى جزء من المشكلة، بعد أن كان ضرورة من ضرورات الحل، ويصبح عبئاً على الشعب بدلاً من أن يكون إضافة إليه، ويخبو الأمل فيه ويتحول إلى ألم ومعاناة.. في هذه المرحلة، يتململ الشعب، ويندم على اختياره ويشعر بعيوبه، ويبحث في استدعاء نماذج قديمة ثار عليها، ويترحم عليها، ويتمنى لو عادت أيامها.. يبدأ الشعب في المقارنة غير الرحيمة، وفي النقد شديد القسوة، وفي استدعاء كل عيوب الحاكم ومثالبه، والإخفاء العمدي لكل مميزاته، وفي التقليل من شأن إنجازاته..

وفي هذه المرحلة، يتلاشى الإحساس لدى الشعب بمعظم أنواع الشرعية التي يحتمي بها الحاكم؛ حيث تختفي الشرعية الأدائية (شرعية الإنجاز)، وتذوب شرعية الكاريزما، وتتوارى شرعية الرضا الشعبي، وتنهار الشرعية الثورية، وتتبقى للحاكم الشرعية الدستورية القانونية المحمية بالقوة المسلحة، والتي يحرص الناس على عدم المساس بها، خوفاً من الأذى، واعتباراً من حوادث سابقة، وانشغالاً بمسائل شخصية حياتية ضاغطة عليهم بشكل مستمر. في هذه المرحلة، تختفي النداءات والمطالبات والالتماسات المرفوعة إلى الحاكم من الشعب، وييأس الناس من "حلول الأرض"، وترتقع الأكف، وتتضرع الأفئدة، وتتصاعد الدعوات في انتظار "حلول السماء".

التطبيقات والنماذج الواقعية

على الرغم من أنَّ هذه الملاحظة (السياسية التاريخية) ليست قاعدة رياضية ملزمة، فإننا نجدها متكررة ومتواترة ومنتظمة الحدوث في التاريخ المصري الحديث والمعاصر بدرجات متفاوتة، وبتفاصيل مختلفة. وقد تشتد حدتها في فترة حاكم معين، وتخف شدتها في فترة حاكم آخر، غير أنَّه اختلاف في الدرجة لا في النوع، وفي شدة النتائج المترتبة عليها، وليس في حدوث الظاهرة نفسها. ويمكن الإشارة إلى نماذج لها، وشواهد عليها حدثت في المئة عام الأخيرة في مصر (1917- 2025) على النحو التالي: -

الملك فؤاد (1917- 1936): يمكن تقسيم فترة حكم الملك فؤاد إلى قسمين: السبع سنوات الأولى (1917- 1924)، وهي فترة البدايات المليئة بالآمال، حيث تم إعلان الاستقلال (مارس 1922)، والسماح بعودة سعد زغلول من المنفى، ووضع دستور جديد (1923)، وشُكّلِت حكومة دستورية بقيادة سعد زغلول (1924)، وبدأت مصر تأخذ خطوات جادة نحو الحكم الدستوري، وكان هناك تفاؤل شعبي بإمكانية حكم برلماني ليبرالي فعال.. الفترة الثانية (لعنة ما بعد السنة السابعة 1925- 1936)، حيث تمت إقالة سعد زغلول من رئاسة الوزراء (نوفمبر 2024)، وتصاعدت التوترات بين الملك والأحزاب السياسية وخاصة حزب الوفد، وتم تعيين إسماعيل صدقي رئيساً للوزراء (1930- 1933) حيث قام بإلغاء دستور 1923 واستبدله بدستور استبدادي يعطي الملك صلاحيات واسعة، وفقد الجمهور الثقة في الأحزاب الموالية للملك، وفي الملك نفسه، كما فقد البرلمان هيبته، وتعددت الوزارات قصيرة الأجل، وتوفي الملك فؤاد في إبريل 1936. 

الملك فاروق (1936- 1952)، ويمكن تقسيم فترة ملكه إلى فترتين: السبع سنوات الأولى (1936- 1942)، حيث بدأ حكمه بتأييد واسع من الشعب الذي اعتبره مختلفاً عن والده، وبأنه يميل إلى الإصلاح، وبأنه قيادة شابة مستنيرة. واستبشر الشعب في بداية حكمه بتوقيع معاهدة 1936، وبتوقيع اتفاقية مونترو (1937) الخاصة بإلغاء المحاكم المختلطة، والامتيازات الأجنبية. وانتهت الفترة الأولى بالحدث السيء الأبرز في تاريخه وهو حادث 4 فبراير 1942. الفترة الثانية: 1943- 1952 (لعنة ما بعد السنة السابعة)، وفيها أصبح الملك لعبة في يد الإنجليز، وفقد شعبيته، وساءت سمعته، وشهدت مصر مظاهرات كثيرة، وتصاعد التوتر بين الملك فاروق وحكومة الوفد، وتوالى على حكم مصر عدد كبير من أحزاب الأقلية، إلى أن انتهى حكمه بقيام ثورة يوليو 1952.

الرئيس جمال عبد الناصر (1954- 1970)، ويمكن تقسيم فترة حكمه إلى فترتين: السبع سنوات الأولى (1954- 1961)، وفي هذه الفترة حقق الرئيس عبد الناصر إنجازات كبرى، مثل تأميم قناة السويس، والبدء في تنفيذ السد العالي، ودعم حركات التحرر الوطني، وصعوده كزعيم عربي وكشخصية دولية كبيرة. وحقق عبد الناصر إنجازات غير مسبوقة في الدعم الاجتماعي، والتعليم، والصحة، وغيرها من المجالات، وانتهت هذه الفترة بالانفصال عن سوريا وفشل تجربة الوحدة (سبتمبر 1961). (المرحلة الثانية: لعنة ما بعد السنة السابعة) 1962- 1970)، وفيها هُزِم المصريون في اليمن، ووقعت نكسة 1967 بكل تبعاتها وانعكاساتها، وضاع الغطاء الذهبي لمصر، وبدأت مصر في طريق الاقتراض. وفي هذه الفترة انتشر الفساد في بعض الأجهزة الأمنية، وظهر صراع السلطة، التي قُسِّمت بين عبد الناصر وأنصاره من ناحية، وعبد الحكيم عامر ورجاله من ناحية أخرى، وانتهت بوفاة الرئيس عبد الناصر (سبتمبر 1970).

الرئيس أنور السادات (1970- 1981)، ويمكن تقسيم فترة حكمه إلى فترتين: السبع سنوات الأولى (1970- 1976)، وتم فيها إقرار "دستور مصر الدائم" (سبتمبر 1971)، وتحقق فيها انتصار أكتوبر 1973، وإعادة فتح قناة السويس للملاحة (1975)، والتخلص من مراكز القوى.. وشهدت مصر بدايات انفتاح اقتصادي وسياسي مبشر وجاد. (المرحلة الثانية: لعنة ما بعد السنة السابعة) 1977- 1981)، وفيها ارتفعت الأسعار بشكل كبير، واشتعلت انتفاضة الخبز (1977)، وتحول الانفتاح الاقتصادي إلى انفتاح غير مناسب لاحتياجات المجتمع (انفتاح السداح مداح على حدّ وصف الأستاذ أحمد بهاء الدين)، وتم توقيع اتفاقية كامب ديفيد (1978)، ثم اتفاقية السلام (1979) وما ترتب عليهما من عزلة عربية، ورفض شعبي لهما.. وفي هذه الفترة، تصاعدت المعارضة الداخلية، وانتشرت الجماعات الإسلامية، وحركات العنف السياسي، وحدثت اعتقالات سبتمبر 1981، وهو ما أدى إلى اغتياله في أكتوبر 1981.

الرئيس حسني مبارك (1981- 2011)، وبسبب طول فترة حكمه، فلا يمكن تقسيمها إلى مرحلتين فقط، بل إلى ثلاث مراحل وربما أربع، لكلّ مرحلة منها سماتها وخصائصها، وما يميزها أنَّ سنواتها السبع الأولى كانت الأفضل، وبعدها حدثت اللعنة (لعنة ما بعد السنة السابعة في الحكم). السبع سنوات الأولى (1981- 1988)، وفيها بدأت محاولات اصلاح اقتصادي جاد، وعادت مصر إلى الجامعة العربية، وحدث استقرار نسبي بعد سنوات السادات الأخيرة، واستردت مصر سيناء كاملة، وانتشرت مقولة مبارك "فترة واحدة تكفي"، و"الكفن مالوش جيوب".. (المراحل اللاحقة: لعنة ما بعد السنة السابعة) 1989- 2011)، تفشي الفساد تدريجياً، وازدادت القبضة الأمنية، وتدهورت الخدمات، وزادت الفجوة بشدة بين الأغنياء والفقراء، وانعزل الرئيس مبارك، أو تم فرض العزلة عليه، وبدأ الصراع بين "الحرس القديم" الموالي لمبارك، و"الحرس الجديد" الموالي لجمال مبارك ولرجال الأعمال المتحكمين في السياسة، وصولاً إلى ثورة 25 يناير 2011. 

الرئيس عبد الفتاح السيسي (2014- ....)، ويمكن تقسيم فترة حكمه إلى فترتين: السبع سنوات الأولى (2014- 2020)، وفيها نُفِذت مشروعات بنية تحتية ضخمة، وتحقق الأمن بعد فترة اضطراب كبيرة، وانتصرت الدولة على الإرهاب في سيناء، وتصدت الحكومات المتعاقبة لكثير من المشكلات الحياتية للمواطنين، وشعر المواطنون بالاستقرار، وبتحقيق تنمية عمرانية كبيرة. (المرحلة الثانية: لعنة ما بعد السنة السابعة) 2021- .....)، تصاعدت الانتقادات حول حالة الاقتصاد (التضخم، الديون،البطالة)، وتقلص الدعم.. وتزايدت الضغوط المعيشية على المواطنين، وانتشر الاستياء الشعبي والغضب المكتوم، وعدم الرضا عن أداء الحكومة، والاعتقاد في انتشار الفساد، وبعدم صلاحية كثير من المسئولين وبعدم كفاءة أدائهم، وهو ما أشار إليه الرئيس السيسي نفسه وأكَّده في خطاب عام (26 أكتوبر 2024) "عايز أقول اللي انتوا بتشوفوه دلوقتي.. تقريباً هي الظروف اللي كنا بنعيشها بعد 67 في مصر"..

نماذج تاريخية ودولية معاصرة

يمكن الإشارة إلى بعض النماذج التاريخية والدولية المعاصرة لظاهرة لعنة السنة السابعة وما بعدها في الحكم.. على سبيل المثال، فإنَّ الخليفة الثالث ذا النورين عثمان بن عفان، رضي الله عنه، تولى الخلافة اثنتي عشرة سنة (23- 35 هــ)، واتسمت السنوات الأولى بالاستقرار، وبإجراء إصلاحات إدارية كبرى، وبجمع القرآن، وبفتوحات كبرى امتداداً لفترة عمر بن الخطاب رضي الله عنه. لكن، ومنذ منتصف حكمه تقريباً (ومنذ السنة السابعة تقريباً) بدأت تظهر مشكلات واضحة، حيث تم تهميش بعض الجماعات، وتركزت السلطة في عائلته، وزادت المظالم، وكثر عدد الساخطين.. وقد أورد الزهري بنقله عن السيوطي في "تاريخ الخلفاء" "ولي عثمان الخلافة اثنتي عشرة سنةـ يعمل ست سنين لا ينقم الناس عليه شيئاً، وإنه لأحبُّ إلى قريش من عمر بن الخطاب؛ لأنَّ عمر كان شديداً عليهم. فلما وليهم عثمان لان لهم ووصلهم، ثم توانى في أمرهم، واستعمل أقرباءه وأهل بيته في الست الأواخر، فأنكر الناس عليه ذلك".. وأدى ذلك في النهاية إلى تمرد بعض الأمصار، وإلى الثورة عليه، وإلى قتله بعد أن رفض التنازل عن الخلافة (لن أخلع قميصاً ألبسنيه الله).

محمد علي باشا مؤسس مصر الحديثة (1805- 1849)، وأطول الحكام بقاءً في السلطة (في مصر) في العصر الحديث، تميزت السنوات الأولى باللين، والتقرب من الرعية، والأخذ بمشورة العلماء ورجال الدين الذين أجلسوه على عرش مصر (عبد الله الشرقاوي، وعمر مكرم، ومحمد المهدي، والسيد السادات..)، وانتهت في السنة السابعة من حكمه بمذبحة القلعة (مارس 1811)، لينتقل بعدها إلى أشدّ فترات الاستبداد السياسي في تاريخ مصر الحديثة.. وعلى حد تعبير عبد الرحمن الجبرتي "فأخذ هذا الرجل (محمد علي باشا) في استمالة قلوب الرعية بظاهر العدل، وأخمد أهل الفساد من العسكر وغيرهم، ثم انفرد بالأمر وأصبح هو الكبير المتصرف، وما زال يكيد المماليك حتى غدر بهم (مذبحة القلعة)." ووصف الجبرتي محمد علي باشا في طريقة حكمه لمصر بعد انفراده بالسلطة وتخلصه من كل المعارضين له بأنه مثل كلب الجور (وحش كاسر) "قد كشَّر عن أنيابه وعوى، ولم يجد له طارداً ولا معارضاً ولا معاندا".

الرئيس الليبي معمر القذافي (1969- 2011)، مرَّ بذات المرحلتين، في المرحلة الأولى (1969- 1975) وصلت شعبية الرئيس الليبي إلى ذروتها، كمحرر من الملكية، وبدأ استثمارات واسعة في البنية التحتية والتعليم والصحة، وكانت له طموحات وحدوية وقومية كبيرة. وفي نهاية هذه الفترة، ظهر "الكتاب الأخضر" (1975). الفترة الثانية، (ما بعد السنة السابعة)، بدأ في الشعور بالعظمة، وفرض فكراً جماهيرياً وفق مفهومه.. وبدأت مؤسسات الدولة في التدهور رغم تزايد دخل ليبيا من البترول..ودخلت ليبيا في مغامرات عسكرية فاشلة، وموَّلت جماعات إرهابية عديدة، ودعمت منظمات متطرفة كثيرة... وانتهى المشهد بمقتله في 2011. 

الرئيس الفنزويلي هوجو شافيز (1999- 2013)، تميزت السنوات السبعة الأولى من حكمه (1999- 2006) بإصلاحات اجتماعية شعبوية، وارتفاع شعبيته بين الفقراء، وكانت السنوات الأولى مليئة بالوعود الاجتماعية، والتطلعات الاقتصادية المرتفعة.. في الفترة الثانية، فترة السنة السابعة وما بعدها، تم تطبيق سياسات اقتصادية كارثية، وزاد القمع السياسي، وانهار الاقتصاد تدريجياً، إلى أن انهار تماماً بعد وفاته (2013).

الرئيس الزيمبابوي روبرت موجابي (1987- 2017)، اتسمت سنواته الأولى بالنشاط، وبالشعبية الواسعة باعتباره قائد تحرر وطني محبوب، وإشادة دولية بأدائه في التعليم والصحة، خاصة بعد رئاسته للحكومة في الفترة السابقة على رئاسته للدولة (1980- 1987). بعد هذه السنوات الأولى، تركزت السلطة تماما في يده، وقاد حملة مصادرة الأرضي من البيض أدت لانهيار الاقتصاد الزراعي، وحدث تضخم مفرط، وقمع سياسي واسع، وتحول من زعيم تقدمي إلى مستبد أضعف البلاد بشدة، إلى أن أجبر على الاستقالة (2017)، وتوفي بعدها بعامين (2019).

التفسيرات

توجد عدة نظريات علمية يمكن استخدامها في تفسير هذه الظاهرة، منها "نظرية الإرهاق القيادي" والتي تشير إلى أنَّ الحكام يصابون بحالة من الإرهاق العقلي والإنهاك النفسي، بعد فترة من الحكم دون تغيير أو تداول، تؤثر على قدراتهم على اتخاذ قرارات فعالة، ويفقدون الحافز والرغبة في الإنجاز. ووفقاً لهذه النظرية، يصل الحاكم في السنوات السبع الأولى إلى حالة من الشبع النفسي من الإنجاز، حيث يكون الحاكم مدفوعاً في السنوات الأولى بالرغبة في إثبات الذات، وتأكيد الشرعية، وبناء رؤيته، وبعدها تقل حماسته، ويحلّ محلها مجرد الرغبة في الحفاظ على السلطة واستدامتها.

 وهناك أيضاً نظرية الغرور السياسي Hubris Syndrome وهي متلازمة نفسية تصيب الحكام نتيجة استمرارهم في الحكم لسنوات طويلة، حيث يسيطر عليهم الشعور بالتفوق، ويفقدون التواضع، ويتجاهلون النصائح، ويرفضون النقد، ويشعرون بالعصمة، ويتشبثون بالسلطة، ويستغلونها، ويهيمنون على المؤسسات، ويتخذون قرارات لخدمة المصالح الشخصية لهم بدلاً من المصلحة العامة، ويميلون إلى العزلة والابتعاد عن الشعب. 

وهناك أيضاً نظرية الدورات الطبيعية للعلاقات، وتشير إلى أنَّ علاقة الحاكم بالمحكومين تمرُّ في الغالب بأربع مراحل: مرحلة الانجذاب والاندماج، ثم مرحلة الاستقرار والتعايش، ثم مرحلة الملل والنفور، ثم مرحلة إعادة التقييم أو الانفصال. وتختلف مدة كل مرحلة من هذه المراحل، غير أنَّ المرحلة الأولى لا تتجاوز في غالب الأحيان السنوات السبع السابق الإشارة إليها.

 وهناك أيضاً "نظرية الاستبداد التدريجي" والتي تشير إلى أنَّ الحاكم قد يبدأ بالتسلط بشكل تدريجي مع بقائه في السلطة، مما ينعكس سلباً على الأداء. ووفقاً لهذه النظرية، يقع كثير من الحكام تدريجياً في "الشعور بالبارانويا" (الارتياب والشك في المحيطين به)، ويبدأ الحاكم في إقصاء الكفاءات والاعتماد على أهل الولاء، ويحيط نفسه بالمؤيدين بشدة لسياساته، ويستبعد أي معارض لها، ولو كانت معارضته تهدف للصالح العام، حيث يتم وصفهم بأهل الشر، أوالأراذل، أوأعداء الدولة/الثورة، ويتم تخوينهم "يا عديم الاشتراكية، يا خاين المسئولية"!

الخلاصة

سيدي الرئيس القادم، ويا كلّ رئيس جديد، احذر من لعنة ما بعد السنة السابعة في الحكم، ولتكن فترة الثماني سنوات التي أقرتها دساتير معظم الدول (الفاهمة) هي الحدّ الأقصى للرئاسة وللحكم..وإنَّ المناداة بتمديد فترات الحكم لأي حاكم هي دعوات مشبوهة من منتفعين، وهدفها استمرار المنافع الشخصية، وليس تحقيق الصالح العام.. والزعم بأنَّ كلَّ رئيس مصري لابدَّ أن يستمر في الحكم أطول فترة ممكنة وحتى وفاته لتحقيق مشروعه الوطني واستكماله هو كذب، وتحايل، وتضليل، وافتراء.. ولو كان الأمر كذلك، لعاش الأنبياء والرسل أبد الآبدين.

سيدي الرئيس القادم، ويا كلّ رئيس جديد، مصر أكبر من كلّ حكامها، وأعظم من كلّ رؤسائها، ولا يتوقف بقاؤها على أحد، مهما كانت إمكانياته، ومهما عظمت قدراته. كانت مصر وطناً له معنى منذ آلاف السنين وليست كما كتب أنيس منصور في مدح عبد الناصر (قبل أن ينقلب عليه) "مصر في عهده أصبحت وطناً له معنى، وله مكان"..ومصر لم تولد يوم ولِد مبارك كما زعم أسامة سرايا في مقالاته التعبيرية، ولم يبدأ "تاريخ مصر الحقيقي في 30 يونيو" كما زعم أحمد موسى، فتاريخ مصر الحقيقي قبل هؤلاء الحكام العظام وبعدهم، سلسلة متصلة من الحلقات، عبر التاريخ الطويل، وإن حدثت لها بعض العثرات، أو مرت عليها بعض الظروف الطارئة.. 

سيدي الرئيس القادم، ويا كلَّ رئيس جديد، ويا كلَّ المنادين بمد فترات الحكم لأي حاكم مهما كان عظيماً ووطنياً ومخلصاً: كثير من سنوات الحكم لا يفيد؛ فما فائدة أن تكسب سنوات إضافية في الحكم وتخسر نفسك، ويحكم التاريخ عليك باللعنة الأبدية.

سيدي الرئيس السيسي: صنعتم إنجازات غير مسبوقة، وحافظتم على مصر آمنةً مطمئنةً في فترة مليئة بالتقلبات، وتحيطها الأخطار من كل اتجاه، غير أنَّ الإنجاز الأكبر الذي سيذكره لكم التاريخ هو تأسيس طريقة سلسلة لانتقال الحكم.. أمامنا وأمامكم خمس سنوات كافية لتحقيق هذا الإنجاز العظيم.. عرفت مصر عبر تاريخها طرقاً مختلفاً لتولي الحكم، غير أنها لم تعرف سوى طريقة واحدة لانتقال الحكم (موت الحاكم أو الانقلاب عليه)، نريد معكم أن نرى طريقة سلمية وطبيعية لانتقال السلطة.. ولن يحقق هذا الإنجاز سواكم، ولا يقدر عليه غيركم، وأملنا فيكم كبير، وثقتنا بكم أكبر، ونحن معكم في كل الأحوال، داعمين ومؤيدين.
-------------------------------
بقلم: د. أيمن منصور ندا

مقالات اخرى للكاتب