ينظر المرء فيمن عرف من الأقرباء والأصهار والمعارف فيجد فريقًا منهم قد سافروا إلى بلاد أخرى يبتغون فيها الرزق وسعة العيش، وفريقًا آخر قد خرجوا من مصر يلتمسون التقدير لعقولهم، ويطلبون الإفادة من تخصصاتهم المهجورة فى وطنهم، وأهل هذا الفريق يعز علىّ جدًّا أن أجدهم أشتاتًا متفرقين فى مشارق الأرض ومغاربها؛ لا لِعَيْب فيهم، ولا لنقص فى عقولهم، بل لأن عقولهم كانت أكبر من أن تستفيد منها بلدهم!
لقد نظرت فيما حولنا من البلدان فرأيت الأمم إذا أراد أهلها أن يكونوا كبارًا فإنهم يجعلون لهم همًّا كبيرًا يسعون إليه، همًّا أكبر من الطعام والشراب، ووجدت أنهم يجعلون تدبيرهم أبعد مدى من تدبير (اليوم بيومه)، ولنا فى الموقعة الإيرانية الإسرائيلية قريبة العهد خير مثال، فهذه إيران جعلت لها همًّا أبعد من الطعام والشراب، وهو أن تكون إمبراطورية كبيرة ذات نفوذ وامتداد، وعلم أهلها أن ذلك لا يكون بتمنى العظمة، ولا بتمجيد الماضى العظيم، بل بعقول أهلها، فانتدبت لذلك العلماء والطلاب فَرَعَتهم وتعهدتهم، فأنشؤوا لها المفاعلات النووية المتقدمة، وصنعوا لها الأذرع الصاروخية الطولى، فكان أول ما استهدف (الكيان) بالاغتيال هم هؤلاء العقول؛ لأنه يعلم يقينًا أن العقول هى الجندى الأول فى الميدان، وكذلك فعلت إيران فى الحرب، فقصفت معهد وايزمان للعلوم فى رحوفوت، ومقر مايكروسوفت فى بئر السبع، فكان أن اقتصّ الإيرانيون لعقولهم بقصف المقرات العلمية والبرمجية للعدو، وإنى ليعجبنى ما كتب الأستاذ الصحفى محمود سلطان على صفحته على فيس بوك معبرًا عن ذلك فقال: "من الدروس المستخلصة: التكنولوجيا قبل الأيديولوجيا"، والإسرائيليون كذلك على قلة عددهم وصغر كيانهم حين أرادوا ارتفاع القامة وعلو الهامة بين الأمم تعهدوا عقول أبنائهم بالعلوم والمعارف والتقنيات حتى صارت هى سلاحهم الأمضى والأنكى الذى يحاربوننا به، وجعل لهم الغلبة علينا، ورفع ذكرهم فى الأمم، وهل يكون تتبع عالم نووى على بعد ألف ميل، ثم استهدافه بصاروخ فى شقة ينزلها سرًّا، إلا بعقول عظيمة رعتها دولتها حق رعاية؟! كذلك الأمة التركية حين جعلت لها هَمًّا عظيمًا هو النهضة، فقد علمت أن ذلك لا يكون إلا باصطفاء أرباب العقول وحُسن العناية بهم، فنرى للترك سبق التقدم لاسيما فى التسليح وتقنياته، والولايات المتحدة الأمريكية حين كان همها أن تكون العظمى جعلت همها استجلاب العقول وحُسن رعاية أصحابها، وتذليل العقبات لهم، فتجد الهندى، والصينى، والروسى، والمصرى كلهم قد أعطى أمريكا الرفعة والمنزلة التى هى عليها، وأعطوها السلاح الذى تطأ به رقاب العباد اليوم وقبل اليوم.
إن رحِم مصر ولود منجاب، فكيف ينتفع بعقول أبنائها أهل البلاد جميعًا إلا هى؟! إنى لأزعم أن أرباب هذه العقول ليسوا أهل عقوق ولا جفاء ليكفروا نعمة مصر، فإنهم ما خرجوا ضنًّا عليها بالعلم والنفع، ولا إيثارًا للخواجة بهذا العلم، لكنهم نظروا فلم يروا التقدير الوافى للعلم وأهله، وربما علموا أن تخصصهم لا يثمر ببلدهم، بل لعلهم نظروا فظنوا أن همَّ بلدهم منصرف إلى غير العلم، فاضطروا اضطرارًا للهجرة، فهم ليسوا مغتربين، ولا مهاجرين، بل أنا أعدهم من المُهجَّرين.
فيا مصرنا، إنه مما ينبغى على الأمة التى تبغى المجد ورفعة القدر بين الأمم أن تجعل لها همًّا قوميًّا جامعًا، وأن تعلم أنه لن يكون لها هذا المجد إلا إن أخذت بأسبابه، والعلم هو أول أسبابه، فإنه "لم يُبنَ ملك على جهل وإقلال"، فإن كنا نسعى فى استرجاع أحجارنا الأثرية المنتهبة، فكيف لا نسعى فى استرجاع عقولنا الحية من مختبرات أمريكا وجامعات الغرب؟! إنه ينبغى استرجاع تلك العقول من عند الغرباء لا بالقسر والإكراه، لكن بإقامة المعاهد والمرافق العلمية لهم، وتيسير أمور عملهم ومعيشتهم، وإغداق النفقات على أبحاثهم، ثم أن تُلحِق بهم الدولة صغار طلاب العلم ممن تجد فيه الذكاء والألمعية والابتكار وأن تتعهدهم، ثم أن يجد هؤلاء من يأخذ منهم هذا العلم فيعمل به الجهاز أو الآلة أو البرمجية لتحسن الإفادة منه، لا أن يكتب ويحفظ فى أدراج أو على أرفف، فحينئذ ترجع مصر أمة عظمى كعهدنا بها.
يا مصرنا، إن تلك العقول لا يصح أن يعامل أهلها كالموظفين، فيحضرون صباحًا وينصرفون ظهرًا، ثم تجرى عليهم أجورهم آخر الشهر! وكما يكون من العيب معاملتهم كالموظفين، فإنه من من العيب والشين التهاون والاستخفاف بخروجهم من مصر، أو الظن الأحمق بأن عندنا بدل الواحد مائة وعشرين مليون واحد! أَفكل الرؤوس سواء؟! إن أهل العقول والكفاءات يوزنون بميزان الذهب لا بميزان العدد، كذلك فمن العيب العائب النظر إليهم على أنهم مغتربون، وأن تزنهم الدولة بمقدار ما يحولونه إليها من العملة الصعبة، فإن هؤلاء هم العملة الصعبة وليست دولاراتهم، فكيف لا نغار عليهم أو نضن بهم؟! كيف نرضى أن يكون حظنا منهم أن نفخر بمصريتهم بينما ينال الغرباء والأعداء الحظ الأوفى من علمهم ومعرفتهم؟! إن خروج هؤلاء من مصر فجيعة وخسارة عظيمة، وإن فَقْد هؤلاء يجعلنا كمثل "بلد فَقَدَ عقله" على وجه الصدق والحق لا على وجه المجاز والمبالغة.
--------------------------
بقلم: محمد زين العابدين
[email protected]