04 - 07 - 2025

حــاشيةُ الأمير

حــاشيةُ الأمير

"يا سيدي، أنت الأحق بالحكم، أين حكمتك وصواب رأيك مما يفعله أخوك حسان، مُلك اليمن يهتز ويرتج، أنت منقذ اليمن" بمثل هذه الكلمات أوحت حاشية عمرو بن تبان له بقتل أخيه حسان ملك اليمن وتوليه الحكم. ألح عليه جميع من حوله إلا رجل يُدعى "ذي رُعين"، أبى عليه ذلك ونهاه عنه، فلما رأى إصرار عمرو على تنفيذ ما يريدون أتاه بصحيفة من جلد غزال مختومة، واستحلفه أن يحفظها بخزينته وألا يفتحها إلا بإذنه، ففعل عمرو لمكانته عنده.

وقع عمرو فريسة سهلة في شَرك الإغواء، رغبه محمومة في الـمُلك وتحريض حاشيته له، "فطوعت له نفسُه قتلَ أخيه، فقتله، فأصبح من الخاسرين". 

تولى عمرو الحكم، وما أن انفضت احتفالات التنصيب، وغادر المهنئون وحاصرته هموم الحكم حتى أفاق من فعلته، يؤنبه ضميره ليل نهار حتى امتنع عليه النوم وآنسه السهر والأرق. فشكا حاله لخُلصائه، لم تُفلح العقاقير، ولا الأعشاب، ولا الليالي المِلاح. أرقٌ على أرق، حتى أوشك أن يفقد عقله. أسر بحاله إلى أحد الحكماء، فأخبره أن ما من شخص قتل أخاه إلا وحُرم النوم. ارتاع عمرو وجُن جنونه، وأخذ يتحين الفرصة للفتك بمن أشار عليه قتل أخيه، فقتل من قتل. 

وذات يوم، رفع سيفه على ذى رُعين فصرخ في وجهه طالباً الصحيفة التي أودعها إياه. "أي صحيفة تلك؟"، سأله عمرو مشككا، فذكره بها، فأحُضرت، فطلب منه ذي رُعين أن يقرأ، فقرأ:

"ألا من يشتري سهرا بنوم سعيد من يبيت قرير عين     
فأما حمير غدرت وخانت فمعذرة الإله لذي رعين"

صُعقَ عمرو لدى سماعه بيتي الشعر وتداعى جسده، سقط سيفه، الآن يبكي ولسان حاله يقول، من يشتري مُلكاً بنوم، ولكن هيهات هيهات، فقد "سبق السيف العذل". 

حاشية عمرو، هي مستشارو اليوم، المساعدون، أهل الثقة، أصحاب الرأي والمشورة، البِطانة، أهل الحل والعقد، النخبة، يحتاجهم كل مسئول وكل صاحب قرار.

قوة المسئول في قدرته على الاستماع إلى كافة الأطياف، وأن يضم إلى حاشيته خبرات متنوعة ومتباينة. قوته في قدرته على التحليل والنفاذ إلى الحقائق عبر ما يسمع ويرى، وأخيراً اتخاذ القرار وتحمل مسؤوليته تحدد دور مستشاريه.

مستشاروه هم عيونه التي تقرأ، وقدمه التي تسعى، ويده التي تكتب، وتبطش، وتحنو أيضًا.للأمير، تحدد الحاشية مستوى ثقة شعبه به، فمتى ضمت رجال أزمات، مخلصين، شرفاء، مترفعين عن المفاسد اطمأن سواد الناس ووقفوا خلفه يساندونه ويشدون من أزره. 

في مجتمعات الشك، وتحت مبدأ "الآخرون هم الجحيم" كما يقول جان بول سارتر، يُقصي الأمير مستشاري سلفه، مُضحياً بكل ما يملكون من خبرة، ومستبعداً فكرة المواءمة بمعنى الإبقاء عليهم مع تطعيمهم بآخرين من أهل ثقته، ليبقى قرار الاستبعاد مرتبطاً بالأداء وليس بالانتماء. 

في مجتمعات القبيلة، تتحول الحاشية إلى فِرق تتحد بوصلتها تِبعاً لاهتماماتها، ومن ثم يصبح المجال أكثر تأهباً لصدامات داخلية تلقى بآثارها على أداء الأمير ومصداقيته. في المجتمعات الهمجية، تضم الحاشية قتلة محترفين، يبيعون ويشترون طبقاً لأهوائه مطمئنين إلى فتاوى وأحكام يُعدها فقهاء قانون بارعون في مواءمة المخالف ومخالفة الملائم، مطمئنين إلى سطوة القوة، وإلى شراسة كلابه يوجهها تجاه كل صاحب رأي مخالف. وهناك أيضا حاشية تقدم نفسها بنفسها إلى الأمير، عبر أبواق التلفاز والصحافة والإعلام، يُسبحون بمجده، وصواب رأيه، وبُعد نظره، ودقيق حكمته آناء الليل وأطراف النهار. 

أنماط عديدة تتشكل منها طبيعة الحاشية، تُلونُها، تصبغها، ليظل ذي رُعين كالماء بلا لون، ولا طعم، ولا رائحة. قِبلتُهُ وطنه ويقينه الإخلاص في النصح. روحٌ تتألق، وقبسٌ يهدي حتى بعد إقدام عمرو بن تبان على قتله.
------------------------
بقلم: د. محمد مصطفي الخياط
[email protected]

مقالات اخرى للكاتب

حــاشيةُ الأمير