المشهد ليس دراميًا كما يبدو… بل مألوف حدّ التكرار.
تجلس وحدك، تتذكّر سقطة قديمة… قرارا خاطئا، ذنبا مهملا، لحظة لم تكن فيها كما تحب أن تتذكّر نفسك.
يتضخّم الندم حتى تظنه وعيًا. تمر الأيام… ولا شيء يتغيّر.
لا أنت نسيت، ولا أنت تجاوزت.
كأنك تعاقب نفسك بلا نهاية، ثم تسمّي ذلك "نُبلًا".
في خضمّ هذه الدوّامة، تلوح عبارة صادمة كصفعة على الوجه:
"من مراتب الغباء، إطالة الندم على شيءٍ انتهى."
لكن لحظة… أليس الندم نُضجًا؟
بوابة للتوبة؟ بداية التغيير؟
لماذا يتحوّل إذًا إلى عبء؟
بل لماذا – أحيانًا – يبدو وكأنه مريح؟
متى يصبح الندم علامة وعي؟ ومتى يتحوّل إلى قيدٍ جديد… وربما إلى خداع للذات؟
---
الندم: مشاعر أم أداة؟
علم النفس السلوكي يُفرّق بين العاطفة التي تُحرّكك، وتلك التي تُعطّلك.
وبين مشاعر تُحاصرك، ومشاعر تُحرّرك.
بين ندمٍ يُرْبِكُكَ… وندمٍ يوقظك.
البروفيسورة "برني براون"، المتخصصة في علم النفس الاجتماعي، تقول:
"الشعور بالذنب قد يكون بوابة للنمو… لكن الشعور بالخزي يدفنك في صمت داخلي طويل."
الندم الذي لا يقود إلى سؤال، ولا ينتج خطوة… ليس وعيًا، بل محاكاة.
هو وهم التغيير… دون أن يغيّرك.
---
هل نحب أن نندم؟!
قد يبدو السؤال غريبًا… لكنه واقعي.
لماذا نُطيل البكاء على الخطأ؟
هل نكره ما فعلناه فعلًا؟
أم أننا نرتاح في دور "المتألم النبيل"… لأنه يُعفينا من التحرك؟
علم النفس الوجودي يطرح هذه الفكرة القوية:
"أحيانًا نُطيل النظر في المرآة الخلفية… لأن الطريق للأمام يربكنا."
بعض الندم ليس اعترافًا… بل هروبًا.
نُطيل الألم… لأن التقدّم مخيف.
نستعيد الذكرى… لأن القرار القادم أكثر تكلفة من الذنب القديم.
---
كبرياء يتخفّى في هيئة ندم
الفيلسوف فريدريك نيتشه قال:
"الإنسان لا يغفر لنفسه، ليس لأنه نادم… بل لأنه لا يحتمل رؤية نفسه ضعيفًا."
وهنا تظهر طبقة أخرى للندم:
أحيانًا لا نندم لأننا تغيّرنا، بل لأن "صورتنا عن أنفسنا" تشققت.
نحزن ليس على ما فعلنا… بل على من كنّا نظن أنفسنا عليه.
فنلبس ثوب الألم… كي لا نلبس ثوب التواضع.
---
القرآن… حين يعلّمنا وظيفة الندم
في الإسلام، الندم ليس غاية، بل وسيلة.
{وتوبوا إلى الله جميعًا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون}
{ولا تقنطوا من رحمة الله…}
النبي ﷺ قال: "الندم توبة" – أي أنه خطوة، لا مكان نقيم فيه.
ابن القيم يُفصّل:
"الندم لا ينفع، ما لم يُحرّك العزيمة، ويقطع طريق العودة إلى الذنب."
فمن يبقى في دائرة الشعور… دون فعل…
كمن جلس على باب التغيير، دون أن يدخله.
---
السؤال الحقيقي: هل تغيّرت؟
توقّف. تأمّل.
ما الخطأ الذي ما زلت تكرّره في ذاكرتك؟
هل تبحث عن إصلاح؟
أم عن عذر جديد؟
هل تحب حقيقة أنك تغيرت؟
أم تحب فقط أن تقول أنك "نادم"؟
ما فائدة الندم… إن لم يغير وجهتك؟
وما فائدة الشعور… إن لم يقُدك إلى نور الفعل؟
---
عبارة ختامية:
"الندم الحقيقي لا يُطيل الإقامة… بل يشعل الحريق، ويقودك إلى باب جديد."
--------------------------
بقلم: محمد عبدالحميد
"خديعة النصح" (4): حين يتحوّل الندم إلى قيدٍ جديد.. هل نكذب على أنفسنا؟
