سكنٌ بلا أمان… من يُنصف سكان الإيجار القديم؟
في كل مرة يعود فيها الجدل حول قانون الإيجار القديم، تُرفع شعارات “العدالة للمالك” و”استعادة الحقوق الضائعة”، وتُروى القصص عن العقارات التي تُؤجر بجنيهات معدودة، في وقت تجاوزت فيه الأسعار حدود المعقول، لكن وسط هذه الضجة، تضيع الحقيقة الأهم، أننا لا نتحدث فقط عن عقود وشقق… بل عن بشر.
أمهات وآباء، أرامل ومُسنون، عاشوا عمرًا في تلك البيوت التي لم تكن مجرد “وحدة سكنية”، بل كانت وطنًا، مأوى، ملاذًا في وجه قسوة الدنيا.
البعض وُلد في هذه الشقق، والبعض دخلها في شبابه وخرج منها إلى المعاش، يحمل على كتفيه أعوامًا من الكفاح… ليُفاجأ اليوم بأن بابه الذي أغلقه بالأمان، قد يُفتح عليه بالقانون، ليُقال له: “ارحل".
وفي خضم الحديث عن “عدالة المالك”، يتناسى البعض أن هذه العقود – التي أصبحت اليوم محل خلاف ، كانت يومًا ما شريعة المتعاقدين.
وقتها، لم يكن إيجار الشقة ستة جنيهات ظلمًا، بل كان يمثل أكثر من نصف راتب الموظف العادي، الذي لم يكن يتجاوز 10 جنيهات، وكان المالك حينها راضيًا وموافقًا عن طيب خاطر.
لم يكن هذا العقد مشروطًا بمدة محددة، بل كان عقدًا مفتوحًا يربط الطرفين برضا كامل، دون أن يتنبّه أي منهما إلى أن الزمن سيتغير، وأن ما كان "عدالة متوازنة" في الخمسينات والستينات، سيُعاد تعريفه بعد عقود ليُصبح ظلمًا لأحد الطرفين!
لكن وسط هذه الضجة، هناك حقيقة غائبة، المستأجرون ليسوا ضد الإصلاح، بل على العكس، هناك توافق كبير على مبدأ رفع الإيجارات تدريجيًا بما يتناسب مع ظروف المعيشة الحالية، بل إن الغالبية تُطالب بوضوح بإعادة النظر في الحالات غير العادلة، كالشقق المغلقة لسنوات دون استخدام.
وهم لا يعارضون – بل يطالبون – بأن تُسحب من يثبت امتلاكه لعقار آخر أو شقة أخرى، أو من يترك الوحدة مغلقة لمدة عام دون استخدام حقيقي… على أن تعود تلك الوحدات إلى صاحبها الأصلي من الملاك. هذه أصوات تطالب بإصلاح متوازن… لا بإبادة جماعية سكنية!.
نعم، لا أحد ينكر أن قانون الإيجار القديم في صورته الحالية يحمل الكثير من التشوهات، نعم، المالك له حق، والدولة من حقها أن تُعيد التوازن لسوق الإسكان… ولكن هل يكون تحقيق العدالة عبر خلق مظالم جديدة؟ وهل يُعقل أن يُطلب من سيدة جاوزت الستين أو من أرمل يعيش على معاش بالكاد يسد رمقه، أن يُخلي منزله دون أن يكون هناك بديل حقيقي؟
أين سيذهب هؤلاء؟ هل ستكفل لهم الدولة سكنًا بديلًا؟ هل يستطيعون دخول سوق الإيجار الجديد بأسعار تبدأ من خمسة آلاف بل وتتجاوز العشرين ألفا في بعض المناطق؟ هل سنرميهم في العراء ونُطلق على ذلك اسم “إصلاح تشريعي”؟
الإصلاح لا يعني التجاوز والعدالة الحقيقية ليست في نصوص ظالمة، بل في التطبيق المتوازن الذي يُراعي الظروف الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية.
ومن هنا، نُجدد الدعوة إلى معالجة ملف الإيجار القديم بمنهجية عادلة وشاملة، تضمن.
- رفع الإيجارات تدريجيًا وبما يتناسب مع دخل السكان، خاصة كبار السن وذوي المعاشات.
- سحب الشقق المغلقة التي تُهدر ثروة عقارية هائلة بينما آلاف الأسر تبحث عن مأوى.
- إعادة الوحدات إلى الملاك الأصليين في حال ثبت امتلاك المستأجر لشقة أخرى أو عدم إشغالها لمدة عام.
- تفعيل آليات التفاوض بين المالك والمستأجر للوصول إلى حلول عادلة، بإشراف لجان حيادية.
- توفير سكن بديل أو دعم مالي مباشر للحالات الاجتماعية الأشد احتياجًا.
القضية ليست مع أو ضد المالك أو المستأجر، بل مع الحق في العيش بكرامة، مع إنسانية القانون لا قسوته، مع حفظ حقوق الجميع دون سحق الفئات الأكثر هشاشة.
إننا حين نفكر في تعديل قوانين الإسكان، علينا ألا ننسى أننا نتعامل مع أجيال كاملة بنت استقرارها على أرضيات هذه البيوت، على جدرانها المملوءة بصور العائلة، وعلى نوافذها التي رأت من خلالها الحياة بكل ما فيها من فرح وحزن.
ليس عيبًا أن نُصلح، بل العيب أن نُصلح على حساب الغلابة، ليس عدلًا أن تُفتح الشقق المغلقة، بينما تُغلق أبواب الرحمة في وجه من لا يملك إلا هذه الأربعة جدران التي يسكنها منذ نصف قرن.
القانون حين يتحول إلى قسوة… يفقد روحه، فلا تجعلوه أداة طرد لمن لم يعد في العمر ما يكفي ليبدأ من جديد .
-------------------------
بقلم: أميرة الشريف