كنت ومعي دفعتي الملازم فائق نتحرك خلف منطقة وادي حجول ونحن نقطع الجبال والوهاد نهارا ، ثم نسكن جزءا من الليل . كان الصهاينة قد اخترقوا منطقة جبال البحر الاحمر ، وتم تكليفنا بتفتيش دقيق لكل وادي ومغارة بحثا عن تلك المجموعة التي نجحت في التسلل ..
كانت وقائع تلك المهمة كثيرة ومثيرة ، وبعضها فكاهي .. نعم كنا نضحك حتي في أصعب الظروف..
أتذكر تلك الليلة التي استيقظنا فيها علي ضجة واصوات مزعجة ، سارعت مع فائق إلي بنادقنا ، وهرولنا من شق الجبل الذي كنا نريح فيه ، وكنا نعدو في ظلام دامس فنتعثر في الصخور ، حتي وصلنا إلي مصدر الضجة في احدي نقاط المراقبة التي كنا نوزعها حولنا قبل النوم ..
كان الرقيب رضوان يتشاجر مع أحد الجنود ، والجندي يقسم أنه رآه ، والجنود يتصايحون ما بين موافق ورافض ..
العريف متري غطاس ابن الصعيد الجواني، يقسم أنه رأي حمارا أبيض يلمع، وله عينان حمراوان يبتسم له ، وان المنطقة مليئة بالعفاريت ...
بحثت الموقف مع فائق ، كنا نعلم خطورة شيوع مثل هذا الموضوع بين أعضاء الدورية وأغلبهم من أصول ريفية لا يبتعد عنهم ذلك الوهم ..
ورغم انهم كانوا من أفضل واقوي جنود الصاعقة ، ورغم ثقتنا في شجاعتهم اذا واجهنا العدو (وهو ما تأكد بعد ذلك في العبور) ، إلا أن مواجهة العدو شيء ، ومواجهة العفاريت والأرواح شيء آخر لا قبل لهم به .
تحدث فائق عن بعض ما كان يكتبه أنيس منصور عن الأرواح والأشباح ، بينما غضبت من مجرد الحوار نفسه متهما الكاتب بالتضليل ، وجلسنا سويا نفكر في حل ..
ولما كانت الليلة شديدة الإظلام ، فقد نجح فائق في التسلل خلف موقعنا والاختباء في موقع اتفقنا عليه، وكان معه ملآة بيضاء ناصعة البياض ، وحمل معه بطارية إضاءة صغيرة كي يضيء بها تحت الملاءة بإشارة متفق عليها ..
ومن ناحية أخري جمعت أفراد الدورية وبدأت أحدثهم عن الخرافات وأحثهم علي عدم تصديق تلك الأوهام عن العفاريت ، ثم أصدرت الإشارة المتفق عليها ، ليظهر كيان أبيض يتنقل في داخله ضوء..
لدرجة أنها أخافتني أنا شخصيا لوهلة ( وأتصور أن جزءاً من المفاجأة سببه أننا لم نجري أي بروفة ، وكنت مثل المجموعة نري هذه الظاهرة فجأة ) ..
وكما كان اتفاقي مع فائق ، تواري مرة أخري بخفة ومهارة خلف تل قريب.. وارتفعت الأصوات الجزعة ، ومتري يقسم بالمسيح الحي أنه" نفس الحمار" الذي رآه أول الليل، واختلفت أوصاف باقي المجموعة حول المقاييس والأحجام، ولكن كان هناك اتفاق حول " حمارة متري".
كان الرقيب رضوان ( الجندي المنضبط دائما، والذي استشهد إلي جواري علي حافة السويس بعد ذلك ) ينظر لي ما بين شك وتصديق ، وينتظر تعليماتي
قلت بشكل أمر عسكري قاطع: مهمتنا يا رجالة أن نقبض علي هذا الحمار ! ..
كتمت ضحكة بحجم وادي حجول، وانا أنصت إلي اصطكاك أسنانهم من الخوف والبرد، وعيونهم ثقوب صغيرة تنظر نحوي في ذهول ، ومتري (لأول ولآخر مرة في خدمته العسكرية) يعلن رفض تنفيذ الأمر .
وفقا للإتفاق كان علي فائق أن يظهر مرة أخري ، وكنت قلقا من أن يتهور أحدهم فيطلق النار ، لذلك كررت بصوت عال (حتي يسمعني فائق) أنني أريد هذا الحمار حيا .. مشيرا إلي أنه لعبة من العدو ..
ظهر الكائن الأبيض مرة أخري ، وبالغ فائق في اللعب بضوء البطارية والشقلبة داخل الملاءة بشكل أضحكني (كان هو في تلك اللحظات مغرقا في الضحك مندمجا تماما في دور العفريت ) ..
أمسكت متري من ياقة سترته ، وقلت له مغاضبا أنه سيكون معي في المقدمة لأسر هذا الحمار ، وإلا عقدت له محكمة عسكرية ميدانية ووضعته أمام جماعة ضرب النار ..
والحقيقة أن هذا الصعقاوى البطل كان أشجع رجالي ، وتقدم معي بالفعل وهو يرتجف علي رأس الدورية في اتجاه التل الذي عاود فائق الاختفاء خلفه .. تقدمنا في بطء حتي صرنا علي مسافة أمتار حين قفز فجأة ذلك الكائن الأبيض أمامنا وهو يصرخ بكلمات عبرية ..
كان تحركا غير متفقا عليه وكاد يكلف فائق حياته وربما كلفني معه سنوات خلف القضبان ، بسبب رغبته في المبالغة والفكاهة .. لقد أطلق الجندي محمد حماد زخات من البندقية الآلية في اتجاهه، ولكنها طاشت بسبب الخوف الذي تملك من حماد.
سيطرت علي الوضع بشدة قافزا في اتجاه الكائن الأبيض ومسقطه علي الأرض. وتشجع متري واتي لمساعدتي كأي صعقاوي بطل لايتخلي أبدأ عن قائده ..
جلسنا بعد ذلك نضحك من قلوبنا. بينما انتهزت الفرصة كي أؤكد علي الدرس "أن الخوف هو مجرد وهم من الأوهام" ، ومنذ تلك الليلة وماتلاها من ليال وأحداث، سوف تبقي معنا حكاية "حمارة متري" ، نستعيدها ونضحك حتي اختفي أبطالها تباعا .. بعضهم في المعارك الصاخبة خلف خطوط العدو، وبعضهم بعد رحلة مرض .. " فَمِنْهُم من قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم من يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدلُوا تَبْدِيلًا " ..
( مهداة إلي روح المرحوم محمد فائق رفيق أروع سنوات الشباب في الجبهة )
-------------------------------
بقلم: معصوم مرزوق
* مساعد وزير الخارجية الأسبق