(رحلة تحليلية داخل الإنسان: من الحاجة إلى الطمأنينة… إلى لحظة السقوط)
لم يكن إبليس هو من أغرى فقط.. كانت النفس هي من رغبت. الرغبة في الخلود، في الأمان، في البقاء.. هي التي جعلت آدم يستمع. لم تكن الكلمة هي الفخ، بل الحاجةُ التي بداخل النفس.
يقول ابن القيم: "كل معصية هي نتيجة شهوة أو شبهة"… وكل شهوة، تبدأ برغبة… والرغبة تنمو حين لا تُمحَص.
في علم النفس الحديث، يُفرّق بين "النية الواعية" و"الدافع اللاواعي". قد تقول إنك تريد الخير… لكن دوافعك الداخلية تقودك لما ترتاح له، لا لما هو أصلح.
هذه اللحظة… حين تكون الرغبة غير واضحة… هي لحظة دخول الفخ.
المشهد الأول: الرغبة كقوة محركة
النفس البشرية مبرمجة على البحث عن الراحة. عن الإجابة السهلة. عن الضوء وسط عتمة التردد.
نظرية ماسلو الشهيرة ترسم هرمًا للاحتياجات: يبدأ من الأمان، مرورًا بالحب، وصولًا لتحقيق الذات. لكن حين يُهدّد الأمان.. يُصبح الإنسان على استعداد لتصديق أي مَن يمنحه وهم الاستقرار.
وهنا، تدخل النصيحة. ليست لأنها صحيحة… بل لأنها تُسكّن رغبةً داخلية. تُعطي مبررًا. تُزيل توترًا داخليًا. وتفتح الباب للسقوط، وأنت تظن أنك تنجو.
المشهد الثاني: من التبرير إلى الإقناع الذاتي
في دراسات علم النفس السلوكي، يُشرح مفهوم التحيّز التأكيدي: Confirmation Bias
الإنسان يبحث عمّا يؤكد قناعاته، لا عمّا يصححها.
لذلك حين يرغب.. يبدأ عقله في ترتيب المبررات. ويُصبح أي صوت خارجي يُدغدغ هذه الرغبة، موضع ثقة، ولو كان خادعًا.
لا تنخدع… أحيانًا من يقول لك: "أنا فقط أريد مصلحتك"، لا يفعل شيئًا إلا أنه يمنحك تصريحًا بأن تفعل ما تهواه.
المشهد الثالث: النجاة تبدأ من الوعي
الخطوة الأولى للنجاة.. ليست في الهروب من المؤثرين أو في كراهية النصح. بل في فحص نفسك:
ماذا أريد فعلًا؟
ولماذا أبحث عن نصيحة؟
وهل أنا أطلب الحق؟ أم الراحة؟
قال عمر بن الخطاب: "رحم الله امرءا أهدى إليّ عيوبي"… ولم يقل: أراحني.
الوعي بالنية… هو جدار الحماية الأول.
المشهد الرابع: اللحظة الفاصلة بين الاستجابة والرفض
حين تسمع نصيحة… يقف داخلك شيئان:
صوت الرغبة: يقول لك نعم، خذها، هذا مريح.
وصوت الضمير: يسأل.. لماذا الآن؟ ولماذا من هذا الشخص؟
هذه اللحظة.. هي لحظة الفكاك أو السقوط.
قال تعالى: {وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى، فإن الجنة هي المأوى} [النازعات: 40-41]
الخاتمة:
إن الإنسان لا يُقاد بالحبال.. بل بالأمل، والرغبة، والخوف، والبحث عن طمأنينة.
فمن لم يعرف ما بداخله.. سيظلّ يُقاد من الخارج.
زن رغبتك، قبل أن تزن النصيحة.
زن دوافعك، قبل أن تزن الكلمات.
زن قلبك.. بميزان من لا يغشك: ميزان الوحي.
------------------------
بقلم: محمد عبدالحميد