كلما ظننت أن الحرب الإسرائيلية الإيرانية قد وضعت أوزارها، وخمد أوارها، وأننا قد استرحنا من صواريخ الليل الساهرة، وغارات النهار الماكرة، إذا الأخبار كل ساعة تزيدنا يقينًا أن السلم أبعد من أوهامنا، وأن الحرب ما وضعت أوزارها بعد، وأن المكائد لم تزل تبيت لإيران، وأن هذه الاثنى عشر يومًا لم تكن هى الحرب، إنما كانت موقعة من مواقعها، أو مقدمة لوقائعها، وأن هذا الذى دعوه وقف إطلاق النار ليس إلا هدنة قَبِلها الإسرائيليون (على دَخَن) إرضاء لذى الرأس البرتقالى، واستبقاء لنُصرته، واستعدادًا لمواقع أخرى أشد، وقَبِلها الإيرانيون استراحةً، واستعواضًا للمستهلكات، وسدًّا للثغور.
إن نتنياهو قد أغراه ضعف من حوله بأن يضع يده على ما ليس له، فأخذ غزة أو أكثرها، وأعمل فى أهلها التقتيل والتجويع والتهجير، وفى لبنان هو مستبيح منه ما شاء، أرضًا، وسماءً، ودماءً، فلا تُرد له طائرة، ولا يُدفَع له جندى، وفى سوريا له مثل ذلك، فأغراه غروره أن هذا أوان قطع الرأس (إيران) بعد أن قطعوا لها الأذرع، ففكر وقدّر، وتناجى وتآمر هو والبرتقالى على أن يباغتوا الإيرانيين بضربة كبرى، فكان ما كان يوم الثالث عشر من يونيو وما بعده. وإن المستقصى لوقائع هذه الأيام، وما انجلى بعدها من أخبار ليعلم يقينًا أن الأمر لم يكن كما زعم الإسرائيليون إذ قالوا إن النووى هو المستهدف، فالذى علمناه من بعد أن القوم استهدفوا نزع العمامة عن رأس إيران، أعنى استبدال حكام تابعين لهم بحكم الولى الفقيه، ويدلك على هذا أنهم مع قصفهم منشآت النووى فقد قصفوا كبار قادة الحرس الثورى، والمطارات العسكرية، وسجنًا كان به المعارضون، ونشّطوا الجواسيس والعملاء فى كل موضع، للرصد والإبلاغ، ولإطلاق المسيرات المتفجرة، وأرسلوا رسائل لكبار القادة يساومونهم إما أن يسجلوا مرئية تتبرأ من الدولة الإيرانية، وإما أن يقتلوهم هم وأولادهم، واستمروا على ذلك اثنى عشر يومًا! إذًا لم يكن النووى هدفهم، بل كان هدفهم نزع عمامة الملالى عن الرأس الإيرانى على المثال الأمريكى فى العراق وأفغانستان؛ حين ابتدؤوا بالغارات الجوية الكثيفة، لكن لم يكن للإسرائيليين مشاة على الأرض ليتموا الغزو كما فعل الأمريكان، كما أن صواريخ إيران قد مستهم بضرر شديد يُخشى معه على سلامة كيانهم، فعلموا أن لقمة إيران أغلظ من أن تبتلعها حلوقهم، فاضطروا لإمساك أيديهم عن الحرب حين أمر ترامب بذلك، فهل تراهم يرعوون عن إيران ويكفون عن التحرش بها والتعرض لسيادتها؟
كلا، لقد أمسكوا إلى حين عن الحرب بالقاذفات والمسيرات حتى يستعوضوا ما استهلكوه من ذخائر، وحتى يراجعوا النظر فى تدبيرهم الحربى، ويروا ما أنجحوا فيه وما أخفقوا، وإلى أن يتموا الاستعداد لموقعة أخرى فهم يدبرون المكائد والحيل، إما بالسياسة والإغراء حينًا، وإما بالتخويف أحيانًا أخرى حتى يبلغوا المرام بإسقاط عمامة إيران.
وإنى لأرجو أن إيران قد عرفت مما رأته عيانًا جهارًا من القوم، ومما قد خبرته من ضرباتهم أن رأس مرشدهم وحدها لن تعصمهم من الهلاك إن لم يسندها إلى رأس نووى، وأن عمامة الولاية وحدها لن تغنى عنهم شيئًا إن لم يعتم عليها بعمامة نووية عاصمة مانعة، فحينئذ سيلزم كُلٌّ حدَّه، وتأمن إيران عدوها، أما إن اتبعت الغرر الذى يزينه لها ترامب، وفاوضت واتفقت وسلّمت نوويها بالدينار والدولار، فلتعلم (وهى تعلم) أن الاتفاق عند هؤلاء ليس إلا ورقة، ولئن أخذوا النووى، فسيطلبون الصواريخ، وإن أخذوا الاثنين فسيطلبون عمامة الدولة ورأس صاحبها، ثم يولُّون بعض صنائعهم على ما يبقى من البلاد، ولئن رضيت إيران بالأموال وبحبوحة العيش (وأظنهم أعقل من هذا) بدلًا من النووى فليقل أهلها على دولتهم يا رحمن يا رحيم.
أقول هذه النصيحة للإيرانيين على بُعد ما بيننا من الأرض، والعرق، والمذهب، واللسان، غير أنى أخشى أن تسقط دولتهم، فإن فى ثبات إيران ثبات لغيرها، وارتداد الغزاة عنها هو كفٌّ لبعض مكائدهم التى تُدبر لنا بليل.
-----------------------------
بقلم: محمد زين العابدين
[email protected]