30 - 06 - 2025

الحرام.. ما بين غيط البطاطا وغيط العنب !

الحرام.. ما بين غيط البطاطا وغيط العنب !

إلي من يوجه الإتهام ؟...

"معلهش ، جدر البطاطا اللي كان السبب يا ضنايا !" ، هكذا كانت تتمتم "عزيزة" في رواية يوسف إدريس "الحرام"، تلك الرواية التي تحولت إلي فيلم مؤلم، أتفادي رؤيته كلما وجدته أمامي علي الشاشة ..

فهل هو " جذر البطاطا " ؟ .

لقد تم إغتصاب " عزيزة " في غيط البطاطا، إلا أن يوسف إدريس العظيم لم يبرئها تماماً من المشاركة في الجريمة، فهي لم تقاوم "إبن قمرين" ، أو أنها قاومته بضعف يحمل في طياته اشتعال رغبتها المتقدة وهي التي لم تعاشر زوجها المريض منذ سنوات.

كأن "الحرام" هنا كان شراكة بين الجاني والضحية، فلا يمكن لأحد أن يتهم صاحب العمل أو ناظره الذي أبدي تعاطفاً في النهاية بحماية "عزيزة" بعد اكتشاف حملها ، وقرر استمرار صرف يوميتها رغم مرضها.

فهل يمكن أن يكون الجاني الحقيقي هو نظام عمل "التراحيل" الذي عرفته مصر منذ عشرات السنين، وهو موروث نظام أقسي هو "السخرة"، أو نظام العبيد المقنع، فهل يقبع "الحرام" في النظام ؟ .

ربما كان "عزيزة" تتغني ببعض الأهازيج القروية، وهي في طريقها لغيط البطاطا ، مثلما كانت ١٨ فتاة مصرية تترواح أعمارهن بين ١٤ و ٢٢ عاماً، يتغنين في بهجة صباح يوم ٢٧ يونيو ٢٠٢٥، والميكروباص ينطلق بهن إلي محل عملهن الذي يعملن فيه لمدة ١٢ ساعة مقابل ١٣٠ جنيهاً (أي ما يوازي تقريباً ٢.٥ دولار، أو ثمن مشروب رخيص في الساحل الشمالي).

"التراحيل" هو لقب ملايين من فقراء الفلاحين المصريين الذين كانوا يتنقلون بين المزارع، ورأس مالهم الوحيد هو سواعدهم مع صبرهم العتيد الذي يساعدهم في تحمل ساعات عمل طويلة مقابل ما قد يكفي بالكاد لسد أودهم.

لم تملك "عزيزة" ما تطعم به زوجها أو أطفالها، رغم مشاركتها في عمل التراحيل منذ مرض زوجها "عبد الله" الدي أكلت البلهارسيا كبده، فرقد هيكلاً مأكولاً، بعد أن كان – كما صوره إدريس – عاملاً قوي البنيان لا يكل ولا يمل مهما كانت قسوة العمل.

خفق قلبها عندما طلب زوجها عبد الله "ذر بطاطا"، فسارعت إلي الغيط القريب تحفر فيه كي تعثر علي جذر البطاطا، حين تعثرت، ووقعت بين براثن "ابن قمرين" ، الذي ضاجعها، ثم تركها خلفه تلملم ثوبها الممزق مذهولة مما حدث، عاجزة عن تفسير عدم مقاومتها، أو ما شعرت أنه استجابة منها لرغبة طارئة.

كانت الفتيات الصغيرات في الميكروباص، لا يبحثن عن جذر بطاطا حين اندفعت تجاههم سيارة نقل ثقيل، كي تعجنهن جميعاً في صفيح الميكروباص، ويحملن لقب "شهداء لقمة العيش" أو "شهداء العنب"، حيث أنهن كن في طريقهن لجمع الثمار في مزرعة للعنب، كعادتهن كل صباح.

لقد نقلت وسائل الإعلام عن النيابة العامة أنه تم القبض علي سائق السيارة النقل، وأن نتيجة التحليل أثبتت تعاطيه مواد مخدرة، ولعل "ابن قمرين" بدوره كان تحت تأثير مادة مخدرة عندما اغتصب "عزيزة" في غيط البطاطا، كما أوضحت بعض وسائل الإعلام مدي جشع مقاولي الأنفار الذين يحشرون أعداد كبيرة في سيارات صغيرة متهالكة كي يحصلوا من توريدهم علي مبالغ أكبر.

كانت بعض الفتيات تعمل من أجل مساعدة أسرهن، وبعضهن كان يحاول استكمال الإحتياجات المادية لمواصلة التعلم مثل طالبة كلية الهندسة، وبعضهن كن يحاولن إدخار ما قد يسهم في نفقات زواجهن، وكلها أساب لا تبتعد عن مغزي جذر البطاطا، وإن كان بأشكال متعددة.

وإذا كان "نظام" التراحيل هو "النظام" المتهم بما آلت إليه تلك الضحية في النهاية، حتي اضطرت لقتل طفل السفاح بعد أن أنجبته فعلاً، ثم فاضت روحها  وهي لا تزال تجز بين أسنانها علي الصفصافة التي استعانت بها عند الولادة، فلقد توصل عدد من النقاد ومنهم رجاء النقاش إلي اتهام "النظام" نفسه بالمآسي التي حاقت بعمال التراحيل، وربما كان ذلك ما أراده يوسف إدريس نفسه، ولكن لا يزال السؤال يعيد طرح نفسه: "إلي من يوجه الإتهام؟" ...

فإذا كان المغتصب "ابن قمرين" ليس هو الجاني، رغم أنه المتسبب المباشر والأصلي فيما حدث، فإن سائق النقل الثقيل بدوره ليس الجاني، ولا يقدح في ذلك أنه كان تحت تأثير المخدر، لأن الأول كان تحت تأثير غريزة أقوي وأشد.

وإذا كانت "عزيزة" بريئة لأنها لم تخرج تلك الليلة باحثة عن متعة محرمة، فإن فتيات "الميكروباص" أكثر براءة لأنهن كن يسعين فقط للقمة عيش حلال، أو لنقل "ذر بطاطا" أو "عنقود عنب" ، ولا يمكن لأحد أن يتهمهن بالتسبب في الكارثة مثلاً لأنهن تكدسن في سيارة صغيرة !.

ولكن لإحقاق الحق فإن الأمر يتطلب مزيداً من التمحيص، فمن الصحيح أن "عزيزة" إنما خرجت إلي غيط العنب كي تحصل علي جذر بطاطا لزوجها المريض، ولم يكن استسلامها للخطيئة إلا تسليم العاجز في مواجهة واقع أقوي منه، ولم تكن تلك "المتعة" التي ألمح إليها "إدريس" إلا مجرد اختطاف لحظات من اللذة المغموسة في الكراهية التي يعرفها كل الفقراء، فهم لا يقاومون أسواط جلاديهم لأنهم يتمتعون بذلك المصير، وإنما يكتفون بصبر قد يصل بهم إلي لحظة انتهاء العقاب، والإرتماء علي جدار لإلتقاط الأنفاس.

وقد نجد تماثلاً في الإستنتاج السابق لحالة فتيات الميكروباص وأسرهن الفقيرة التي ترتضي بذلك النصيب من "المتعة" بين فكي الموت والعذاب .

أي أن الضحية شريك بنسبة ما في الجريمة .

ولكن وصلني الآن وقت كتابة هذا المقال بشكل رسمي ما يفيد بأن المجرم الحقيقي هو سائق النقل الثقيل المخدور، مما جعلني أفكر في تمزيق المقال كله ، لأن بيان "النيابة" الذي نشرته بعض المواقع قد قطع قول كل خطيب، لولا أنني قرأت أن هذا السائق يضطر للعمل بلا توقف لمدة ٢٤ ساعة، وأنه بالتالي يكون في حالة ملحة لقدر من المخدرات متوهماً أنها تساعده علي اليقظة، والواقع أنها تدفعه لغيبوبة مفتوحة العينين.

بالإضافة إلي ذلك قرأت أيضاً تقريراً مطولاً عن حالة الطرق في مصر، وكمية الأموال الضخمة التي أنفقت في إنشائها وصيانتها، وقد صدمني أن اكتشفت أن الطريق الذي وقعت فيه الكارثة تم تسليمه من الشركات المنفذة قبل ٧ سنوات فقط، وسرعان ما برزت العيوب التي اضطرتهم إلي عمل تحويلة ضيقة كانت أحد الأسباب في موت هذه الفتيات وغيرهن خلال الأشهر السابقة.

أشارت التفارير أيضاً إلي أن الطرق الجديدة تئن وتعاني ، فهل كان ذلك بسبب أنها تتحمل فوق طاقتها؟ ، أم لأنها أُسست علي عجل بغرض الإبهار دون أن تدرك أن "العجلة من الشيطان"؟ ..

وسارعت جهات مختلفة تنفي مسؤوليتها عن الكارثة، لدرجة أنه يمكن القول أن المسؤولية شائعة ودمها تفرق بين الجميع (هل هي وزارة النقل التي تؤسس الطرق وترعاها، أم وزارة العمل التي سمحت بشيوع ظاهرة التراحيل مرة أخري؟ أم هي مسؤولية المحافظين؟ أم البرلمان الذي لم يصدر حتي الآن قانون السلطة المحلية حتي يتم انتخاب هيئات مسؤولة أمام ناخبيها).

والإجابات هي ذات الإجابات، وفقاً للتقاليد المرعية في مصر منذ عهد الأجداد الفراعين، فالكل يعمل تحت شعار: "احنا عبد المأمور !" أو "اطبخي يا جارية ، كلف يا سيدي !" .. والمأمور ليس كما يظن بعض الأشرار الذين يحرفون الكلم عن مواضعه لإصطياد كل من يحاول المغامرة بالتفكير، خاصة إذا أعقب تفكيره بإثم التعبير عنه .

لقد تم اغتصاب "عزيزة"، والمجرم "ذر بطاطا" !
-------------------------------------
بقلم: معصوم مرزوق
* مساعد وزير الخارجية الأسبق


مقالات اخرى للكاتب

الحرام.. ما بين غيط البطاطا وغيط العنب !