30 - 06 - 2025

يموت معدومو الدخل.. في بلدٍ يحيا فيه معدومو الضمير

يموت معدومو الدخل.. في بلدٍ يحيا فيه معدومو الضمير

ليست هذه مجرد مأساة عابرة، وليست أول مرة ندفن فيها أحلامًا جماعية في حفرة على جانب الطريق. لكننا، كأننا اعتدنا ذلك. جملة واحدة تلخّص كل شيء: "يموت معدومو الدخل، في بلدٍ يحيا فيه معدومو الضمير."

لم تكن الفتيات مجرد أرقام على شريط الأخبار. كنّ يحلمن، يدرسن، ويجتهدن في كسر دوائر الفقر والخذلان. لكن سيارة نقل حطّمتهن دفعة واحدة، على طريق ربما لم تشهده أي سيارة إسعاف في التوقيت المناسب. طريقٌ لا توجد عليه كاميرا، ولا نقطة إنقاذ، ولا أحد يسأل: لماذا؟ وكيف؟ ومن المسؤول؟

فصل أول: موت معلن على قارعة الطريق

حادث السير الذي أودى بحياة ١٩ فتاة، ليس حادثًا عابرًا بل شهادة وفاة صامتة لكل ما تبقى من كرامة العدل الاجتماعي.

من الذي قرر أن تكون وسيلة انتقالهن "صندوق سيارة نقل"؟

من الذي جعل الحلم بالتعليم مقرونًا بالمخاطرة بالحياة يوميًا؟

ومن الذي أقنعنا أن هذا هو "القدر"، بينما هو في الحقيقة خلل إداري، وتراخٍ رقابي، وضميرٌ مفقود؟

فصل ثانٍ: الفقراء لا يموتون فقط.. بل يُستنزفون أولًا

في هذا البلد، يُستنزف الفقير على دفعات:

يُولد في مستشفى غير آدمية

يدرس في مدرسة عاجزة

يتخرج ليبحث عن فرصة تُطعم لا تُكرم

ثم يموت على طريقٍ لا يعرفه أحد إلا عند النعي

هؤلاء الفتيات كنّ يذهبن للعمل أو التعليم. لم يكنّ على طريق سفر سياحي، ولا في رحلة ترفيه. هنّ ضحايا منظومة لا تحترم الحق في الحياة.

فصل ثالث: متى يُحاسب الغائب؟

كل من قرأ الخبر قال: "لا حول ولا قوة إلا بالله"، ثم أغلق الهاتف.

لكن أين ذهبت التحقيقات في حوادث مشابهة؟

كم مرة مات فيها عمال على الطريق؟

كم مرة دهست شاحنة أطفالًا؟

من الغائب الذي لا يُسأل؟ ومن الحاضر الذي يدفع الثمن؟

إذا كانت المحاسبة تعني فقط أن نسأل "السائق فين؟"، فنحن نضحك على الجثث.

فصل رابع: الضمير العام.. في غرفة الإنعاش

ما يجعل الفاجعة مضاعفة، هو أن هذه الكارثة لم تفجّر نقاشًا عامًا حقيقيًا.

لم نرَ لجنة طوارئ، ولا مسوؤلين على الأرض، ولا خطة لتأمين الطرق أو تحسين وسائل النقل.

بل مرّ كل شيء كأنه لم يكن.

أصبح الضمير العام بحاجة إلى الإنعاش، لأن الألم لم يعد يهزّنا، والموت أصبح خبرًا موسميًا.

فصل خامس: ما تبقى من الإنسانية فينا؟

الحديث هنا لا يتعلق فقط بالدولة، بل بنا جميعًا.

هل سألنا أنفسنا ماذا كنّا سنفعل لو كانت هؤلاء بناتنا؟

هل غضبنا بما يكفي؟ هل طالبنا بأكثر من مجرد "الترحم والدعاء"؟

ربما إن طالبنا بالحد الأدنى من الكرامة، نكون قد قدّمنا شيئًا لهؤلاء الفتيات أكثر من باقة ورد على قبورهن.

-------------------

خاتمة: المقال الذي لا يجب أن يُنسى

ربما يُغضب هذا المقال بعضهم. وربما يُتهم كاتبه بأنه "يُضخّم" الأمور.

لكن الحقيقة: أن التضخيم الحقيقي هو في صمتنا.

وأن من كتب هذا، كتب وهو يرى الموت قادمًا على هيئة إهمال، وصندوق سيارة، وطريق مُظلم.

كتب لأنه لم يعد يحتمل أن يُدفن الصالح العام كل مرة، باسم "القضاء والقدر".

وكتب لأنه ما زال يظن أن هناك ضمائر، حتى وإن كانت نائمة.. يمكن إيقاظها.
-------------------------------------
بقلم: محمد عبدالحميد

مقالات اخرى للكاتب

يموت معدومو الدخل.. في بلدٍ يحيا فيه معدومو الضمير