فى مثل هذه الأيام وقبل نحو ٥٠ عاما ونحن فى عز الشباب وفى الإجازة الصيفية ودعت جاري، فى درب المواهي حارة السقايين عابدين، مجدى نجم الذى قرر الانطلاق مع نخبة من جوالة آداب القاهرة، أتذكر منهم سيد سرحان ومجدي عبدالحافظ وعصام عبدالغني والقائد أحمد عبدالتواب إلى فرنسا بطريقة الأوتوستوب، صحبته إلى ميدان عابدين نقطة الانطلاق للعالم الخارجي (خارج حارة السقايين ودروبها) ودعوت الله أن يوفقه فى الوصول إلى ليبيا ثم تونس ثم الجزائر ثم المغرب والوصول بسلام وأمان إلى فرنسا.
ظللت قلقا إلى أن وصلتنى أول رسالة من صديق العمر مجدي نجم تقول إنه بخير ويعمل لدى أسرة فرنسية فى جمع العنب بريف ليون وأنه يلقى معاملة طيبة جدا، ويحصل على أجر مجزي بالفرنك الفرنسى، وبعدها تلقيت خطابا منه يفيد أن انتقل لوظيفة عامل نظافة فى شركة، وأنه أصيب أثناء العمل عندما وقع عليه لوح زجاجي وتم علاجه على نفقة الشركة ومنحه إجازة ١٠ ايام للترفيه عن نفسه مع منحه تذكرة تمكنه من ركوب كل وسائل المواصلات مجانا طوال فترة الإجازة.
وفى نفس التوقيت تقريبا ودعت أيضا جارى وصديق العمر توفيق ذكى الطالب بطب الأزهر، والذى فضل السفر الى لندن بالطائرة ليبحث عن عمل مثل آلاف الطلاب فى ذلك الوقت، والاستفادة من اسعار تذاكر الطيران المخفضة للطلبة، والاثنان مجدي وتوفيق عادا من الشمال الأوروبى بأطيب الذكريات وافخم الملابس التى ساهمت فى رفع مستوى الأناقة فى حارة السقايين.
لا أعرف لماذا طافت بى هذه الذكريات الآن، ربما بسبب الحادث المروع لشهيدات لقمة العيش الحلال، وكلهن فى عمر الزهور وبعضهن طالبات، والأخبار المتواترة تقول إن الشهيدات كن يعملن فى مزرعة لجمع العنب مقابل ١٣٠ جنيها فى اليوم لكل فتاة!
استشهاد ١٨ فتاة أو عروسة فى عمر الزهور فى حادث سير أمر جلل، ينبغى أن يدفع كل الجهات المعنية لدراسة أسبابه، خاصة وأن الطريق الذى وقع فيه الحادث المروع اصطلح على تسميته بطريق الموت، ومن غير المقبول سماع تصريحات من عينة الطريق سليمة من الناحية الفنية!
فى السبعينيات كان موسم الهجرة للشمال أي لأوروبا لمن استطاع إلى ذلك سبيلا (عن نفسى لم استطع ووفقنى الله للعمل فى شهور الصيف بالعلاقات العامة لشركة القاهرة للأدوية وقت أن كان هناك ما يسمى بمشروع تشغيل الطلبة) والآن هناك موسم الهجرة للساحل الشمالى سواء الساحل الطيب أو الساحل الشرير، حتى الحكومة هاجرت إلى الشمال، وبالتحديد للعلمين الجديدة الرائعة والتى لا يقدر على ارتيادها إلا كل ذي حظ عظيم من الذين فتح الله عليهم مالا وسلطة وجاها.
البون شاسع بين الشهيدات المكافحات من أجل لقمة العيش ومثلهن مئات الألوف من الفتيات فى كل أنحاء الريف المصري قبلى وبحري، وبين فتيات وسيدات الساحل الشمالى اللاتى يتنافسن على من ينفق أكثر بالدولار وباليورو والاسترلينى، واللاتى يعتبرن أنفسهن فى مهمة قومية وهى إظهار مدى المهارة المصرية للرقص بالبكينى.
رحم الله شهيدات لقمة العيش ورحم الله سائق الميكروباص الذى كان يتولى نقلهن وأسكنهم جميعا فسيح جناته.. مع كل الأمنيات الطيبة لرواد الساحل الشمالى بوقت طيب وسفر آمن وعودة سالمة.
يبقى أن أوجه التحية للأديب السودانى الكبير الطيب صالح رحمه الله، والذى استعرت اسم روايته الأشهر والأجمل (موسم الهجرة إلى الشمال)
---------------------------
بقلم: عبدالغني عجاج