شن الرئيس الأمريكي حرباً شرسة على إعلام بلاده واتهمه بالكذب والتضليل، وطالب بطرد من وصفهم بمراسلي الأخبار المزيفة خاصة مراسل قناة "سي إن إن" وصحيفة "نيويورك تايمز" فوراً بعد كشفهم عن تقارير استخباراتية وعسكرية أمريكية بشأن المنشآت النووية الإيرانية، التي أدعى ترامب إبادتها فجر الأحد 22 يونيو 2025، فكذبه إعلام بلاده وفقا لتقرير سري للمخابرات الأمريكية تمت مناقشته بمجلس الشيوخ، فاتهم ترامب خصومه الديمقراطيين بتسريب التقرير، لذلك قرر البيت الأبيض عدم التعاون مع الكونجرس (وهو المؤسسة الدستورية ويضم مجلسي الشيوخ والنواب) فيما يخص المعلومات الاستخباراتية، وقيام مكتب التحقيقات الفيدرالي بالتحقيق لمعرفة المسؤول عن تسريب التقييم بشأن الغارات الأميركية على إيران.
متحدثة البيت الأبيض كارولين ليفيت، والتي تسير على خطى رئيسها ترامب الذي أصبح متفرغا ووزير دفاع بلاده ورئيس أركان جيشه لإظهار مدى نجاح الضربات الأمريكية للبرنامج النووي الإيراني في كل المحافل الدولية والمحلية.. قالت خلال مؤتمر صحفي مساء الخميس/26 يونيو 2025/ إن التهديد النووي الإيراني مدفون تحت الأنقاض، وأن العملية الأمريكية حققت ما عجزت عنه الدبلوماسية والعقوبات لعقود، مع التأكيد على أن مهمة ضرب المنشآت النووية الايرانية كانت ناجحة بشكل كبير.
ليفيت الحسناء، أوضحت أن الضربة كانت نتيجة لمعلومات استخباراتية، أفادت بأن النظام الإيراني يمتلك القدرة على صنع سلاح نووي، وأنه على بعد أسابيع للإنتاج.. وفي ذلك السياق كانت الوكالة الدولية للطاقة الذرية قد ادعت أن إيران لديها ما يكفي من المواد لإنتاج نحو 12 قنبلة نووية.. لذلك ـ كما قالت ليفيت ـ أرسل ترامب سربا من الطائرات الأمريكية المقاتلة لتدمير البرنامج النووي الإيراني، ولم يعد بإمكان إيران أن تصنع سلاحا نوويا.. وزيادة في التأكيد قالت ليفيت "الولايات المتحدة وإسرائيل وإيران متفقة على أن طهران لم تعد قادرة على صنع سلاح نووي".
** أمريكا تناقض نفسها
من الواضح أن الضربات الأمريكية على منشآت إيران النووية، والتي تصفها الإدارة الأمريكية بكافة أفرعها بأنها كانت من أكثر العمليات سرية ونجاحا في تاريخ الولايات المتحدة، قد أصابها الخلل من ناحية التقييم.. الإدارة الأمريكية التي أكدت عبر مشاهد متحركة يوم الهجوم على مفاعل فوردو، فجر الأحد 22 يونيو 2025، أظهرت ناقلات قالت إنها قامت بنقل اليورانيوم المخصب من المفاعل يومي 19 و20 يونيو 2025، عادت يوم الخميس 26 يونيو 2025، لتقول لنا المتحدثة باسم البيت الأبيض لا يوجد ما يشير إلى نقل اليورانيوم المخصب من المواقع النووية في إيران قبل الضربة الأمريكية(!) وكتب الرئيس الأميركي دونالد ترامب عبر صفحته على تروث سوشيال أنه لم يتم إخراج أي شيء من الموقع النووي الإيراني.. علماً بأن صحيفة واشنطن بوست، كشفت يوم الهجوم "استناداً إلى صور التقطتها أقمار صناعية تجارية، عما وصفته بنشاط غير مألوف لحركة مرور غير عادية لشاحنات في محيط منشأة فوردو النووية الإيرانية قبل يومين فقط من العدوان الأميركي الذي استهدف الموقع، ما يشير إلى إجراءات أمنية أو فنية اتخذتها السلطات الإيرانية قبيل الضربة، نتيجة تلقي إيران معلومات استخباراتية أو مؤشرات ميدانية دفعتها إلى تنفيذ تحركات استباقية لحماية محتويات المنشأة أو إخلائها.. في ذات الوقت ذكر التلفزيون الإيراني أنه تم إخلاء المنشآت النووية الثلاث في نطنز وفوردو وأصفهان قبل فترة، ويأتي ذلك وفقا لإجراءات مسبقة اتخذتها الإدارة الإيرانية للحفاظ على سلامة المنشآت النووية، وذلك وفقا لبيان لجنة الأمن القومي بالبرلمان الإيراني، الذي أوضح أن الدفاع المدني الإيراني كان يتوقع الهجمات على المداخل ولهذا وضعت عند نهاية كل نفق مساحة فارغة تُعرف بـ "Blast tarp" (أي الدوائر الزرقاء) لامتصاص موجات الانفجار ومنعها من الوصول مباشرة إلى المنشآت النووية.. وهذا التصميم الذكي يعكس مدى استعداد إيران الكامل لمواجهة أي عدوان، فضلاً عن أن كل شهود العيان والمناطق المحيطة، حول مفاعل فوردو، التي تقع بمنطقة جبلية قرب مدينة قُم، يؤكدون أن صوت الانفجارات كان ضعيفا وهو ما يتناقض تماما مع الرواية الترامپية(!!)
(الدوائر الزرقاء) لامتصاص موجات الانفجار ومنعها من الوصول مباشرة إلى المنشآت النووية.
** ليس بالأقمار الصناعية تكون الحقيقة
أما صور الأقمار الصناعية التي تظهر أن عددا كبيرا من الشاحنات توالت على المنشآت النووية قبل الضربة بيومين، وفقا لمصادر استراتيجية وعسكرية قريبة الصلة بالنظام الإيراني، قالت لـ "المشهد" إن الإدارة الإيرانية تلقت معلومات من إحدى الدول الصديقة بمنطقة الشرق الأوسط بشأن الهجوم الأمريكي على المنشآت النووية الثلاثة، لذلك قامت الإدارة الإيرانية بنقل كميات كبيرة من الأتربة والرمال لوضعها عند مداخل المنشآت لامتصاص الضربة، وأن إيران نقلت اليورانيوم المخصب والبالغ وزنه 400 كيلو جرام لمكان مجهول.
وما يعزز رواية نقل اليورانيوم لمكان أخر، ما أفادت به صحيفة فايننشال تايمز بأن دولا أوروبية تعتقد أن إيران نقلت اليورانيوم من فوردو قبل الضربات الأميركية، وأن التقييمات الأولية للمخابرات تشير إلى أن طهران تحتفظ بمعظم مخزونها من اليورانيوم عالي التخصيب.. فيما تقول وكالة الطاقة الذرية والتي باتت خصماً في المعركة بعد اتهامها من قبل إيران بالوقوف إلى جانب الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، "إن ما يدور بشأن تدمير البرنامج النووي الإيراني كاملا أمر مبالغ فيه، ولا نستطيع تقدير درجة الضرر بدقة في منشأة فوردو الإيرانية من خلال صور الأقمار الصناعية فقط".
ومن هنا يأتي السؤال من أين لها تلك المعلومة (؟) ومن أين لترامب التأكيد بتدمير المنشآت النووية (؟)
يجيب ترامب أن عملاء إسرائيليين زاروا موقع فوردو النووي في إيران وقالوا تم "تدميره بالكامل"، فكما تعلمون لدى إسرائيل أشخاص داخل إيران دخلوا بعد الضربة، مؤكدين وجود تدمير كامل، وأن إسرائيل تعد تقريرا عنه الآن، وهي تشير إلى دمار كامل.. وهو ما نفته وكالة أنباء فارس الإيرانية، ونقلت عن مصادر إيرانية أن دخول عناصر الموساد إلى موقع فوردو النووي بعد الهجوم عليه هي مزاعم أمريكية لتضخيم قوة العدو، وكذبة أمنية نظرا لمستوى الحماية المشددة بالمنشأة.. وتماشياً مع الكذبة الترامبية، كشف موقع أكسيوس الأمريكي أن البيت الأبيض نشر تقريراً نيابة عن لجنة إسرائيل للطاقة الذرية يؤكد تدمير فوردو، وبناء عليه قالت هيئة الطاقة الذرية الإسرائيلية: "الهجوم الأميركي جعل منشأة التخصيب في فوردو غير صالحة".
وما عكر مزاج ترامب أن نواب مجلس الشيوخ الأمريكي قاموا عقب الإحاطة السرية بشأن منشآت إيران النووية كشفوا كذب رئيس دولتهم الطامع في الحصول على جائزة نوبل للسلام (ومن عندنا جائزة الخراب والكذب أيضاً) إذ قال السيناتور الديمقراطي ريتشارد بلومنتال "إن ما سمعناه في الإحاطة السرية بشأن الضربة على إيران لا يعطينا شعورا بالارتياح أو الاطمئنان، لأن ما سمعته يؤكد أن إيران لاتزال تشكل تهديدا نوويا للعالم بأسره، وأننا لا نملك تقييما نهائيا للأضرار التي لحقت بالبرنامج النووي الإيراني في الوقت الراهن".. فيما قال زعيم الديمقراطيين في مجلس الشيوخ الأمريكي تشاك شومر "لم نسمع إجابة كافية في الإحاطة السرية تؤكد صحة ادعاء ترامب بتدمير مخزون إيران النووي بالكامل".. أما عضو مجلس الشيوخ الأمريكي “كريس ميرفي" فقال "الرئيس ترامب لم يكن يقول الحقيقة عندما قال إن البرنامج النووي الإيراني تم محوه من الوجود كاملاً.. أعتقد أننا أجلنا البرنامج لأشهر، وأنا غير مقتنع أنه تم محوه تماماً، بالطبع هناك دمار، ولكن إيران بقيت لديها قدرات معتبرة"..
وذلك ما أقرت به صحيفة هآرتس الإسرائيلية، بأنّ البرنامج النووي الإيراني ما يزال قائمًا، وإيران ما تزال تملك المعرفة التقنية لتخصيب اليورانيوم، ما يعني أنّ نافذة وقف هذا البرنامج أُغلقت، ولا تستبعد هآرتس امتلاك إيران المعدات اللازمة سرًّا، واستندت الصحيفة إلى معلومات الوكالة الدولية للطاقة الذرية التي تفيد بأنّ إيران كانت تمتلك 408 كيلوجرامات من اليورانيوم المخصب بنسبة 60%، ما يكفي لصناعة قنبلة نووية، مع إمكان نقله وتخزينه في حاويات صغيرة دون الحاجة إلى بنية تحتية معقّدة.. فيما أكد مفتش أسلحة الدمار الشامل السابق في الأمم المتحدة والضابط السابق في الاستخبارات الأمريكية "سكوت ريتر"، أن منشأة فوردو لم تتعرض لأضرار جسيمة، وأن أجهزة الطرد المركزي من طرازي" IR6 وIR8 " لم تُصب بأي تلف، خلافاً لما ذكرته الوكالة الدولية للطاقة الذرية "أن أجهزة الطرد المركزي في موقع فوردو الإيراني لم تعد صالحة للعمل"..
**فقدان النشوة لدى ترامب
صحيفة "نيويورك تايمز" المتهمة بالكذب من قبل ترامب ومعاونيه، ترى أن التقرير الاستخباراتي الأمريكي حول نتائج الضربة الأمريكية لإيران، عكّر مزاج الرئيس دونالد ترامب وأفسد عليه نشوة النصر، الذي كان يعتزم الاحتفال به في القمة السنوية لحلف الناتو في لاهاي، لكنه فوجئ بتقرير استخباراتي جديد يطعن في زعمه المتكرر بأن الضربة الأمريكية دمرت البرنامج النووي الإيراني، وهو كان متشوقاً للاحتفال بانتصاره في الناتو، والتباهي بتنفيذ هجوم لم يجرؤ أي من سابقيه على القيام به، وكان يأمل أن يذكره التاريخ بقصف المنشآت النووية الإيرانية، ثم وساطته للتوصل إلى اتفاق سلام بعد أيام قليلة. لكن بعد ساعات من وصوله إلى لاهاي صدر تقرير مبدئي من البنتاجون كانت نتائجه ضارة بشكل خاص لترامب، فتحطم مزاجه المتفائل، لإفادة التقرير بأن المنشآت النووية الإيرانية الثلاثة لم تتضرر بشكل كامل، ولم تقض الضربة الأمريكية على المكونات الرئيسية للبرنامج النووي الإيراني، بل أعاقت تطوره لبضعة أشهر فقط حسب التقديرات الأولية.
ورداً على ما نشره الإعلام الأمريكي أتهم ترامب كلا من قناة "سي إن إن" وصحيفة "نيويورك تايمز" بالسعي لتشويه مصداقية الضربة الأمريكية على إيران، وقال خلال مؤتمر صحفي الأربعاء الماضي/ 25 يونيو 2025/ خلال قمة الناتو " المواقع التي ضربناها في إيران دُمّرت بالكامل، والجميع يعلم ذلك. وحدهم الأخبار الكاذبة يقولون غير ذلك في محاولة للتقليل من شأن ما حدث قدر الإمكان"، فيما وصف المبعوث الخاص لترامب إلى الشرق الأوسط ستيفن ويتكوف تسريب المعلومات بأنه خيانة تستوجب التحقيق.
ومازال ترامب يؤكد أن عملية "مطرقة منتصف الليل" قد محت بالكامل منشآت تخصيب اليورانيوم الإيرانية.. ويرد عليه المرشد الأعلى للثورة الإيرانية علي خامنئي رغم كل الضجيج والادعاءات فإن الكيان الصهيوني انهار تقريباً وسُحق تحت ضربات الجمهورية الإسلامية، وإيران الحبيبة حققت النصر على النظام الأميركي الذي دخل الحرب لأنهم شعروا أن إسرائيل قد تنهار بالكامل بعد أن سوت صواريخنا مناطقه بالأرض.
---------------------
كتب ـ محمد الضبع