27 - 06 - 2025

حرب جديدة: غلمان وجواري السوشيال ميديا

حرب جديدة: غلمان وجواري السوشيال ميديا

أثناء سفري بين العديد من المدن الأوروبية - الأعضاء في الاتحاد الأوروبي - سواء بالقطار أو بالطائرة كنت أضطر للتحدث بعدة بلغات حتى أتمكن من مواصلة الرحلة، فالناس يتحدثون لغات مختلفة رغم تشابه أشكالهم، والسياح الفرنسيون مثلاً لا يفهمون لغة البلاد الاسكندنافية مثل السويد والدنمارك وفنلندا والنرويج، والعابرون من أيرلندا إلى ألمانيا لا يستطيعون التفاهم مع سكان البلد المضيف، والقادمون من رومانيا إلى بريطانيا لا يتحدثون الإنجليزية، والروس لا يستطيعون التفاهم مع سكان البرتغال، والإسبان لا يعرفون لغات دول أوروبا الشرقية مثل المجر وجمهورية التشيك وبلغاريا وبولندا .. وهكذا دواليك. لاحظت أن ثمة دول أوروبية عديدة ذات حدود مشتركة ولكنها تتحدث لغات مختلفة ومتنوعة ولا تشترك في إرث ثقافي واحد. وهذا يعني أن المسافر بين دول الاتحاد الأوروبي يستحيل عليه التنقل بين كل هذه الدول وهو يتحدث لغة واحدة. 

 في ذات الوقت سافرت لدول عربية كثيرة في إفريقيا وآسيا تقع في الجغرافية المنبسطة من المحيط إلى الخليج ومن الماء إلى الماء وقد وجدت أن سكان هذه الدول يتحدثون لغة واحدة حتى إذا اختلفت اللهجات بين الدول الممتدة من مراكش إلى المنامة، ومن صنعاء إلى عَمان، ومن مسقط إلى أسوان، ومن بيروت إلى نواكشوط، ومن الخرطوم إلى دمشق، ومن الجزائر إلى رام الله، ومن أبو ظبي إلى تونس، ومن القاهرة إلى جدة، ومن الدوحة إلى طرابلس - رغم هذا التنوع  الهائل في اللهجات يستطيع من يتحدث لغة واحدة وهي العربية التنقل بسهولة بين جميع هذه الدول مترامية الأطراف الواقعة في الفضاء العربي الممتد بين الأطلسي والخليج العربي. والمسألة هنا تتعدى البعد اللغوي لأن معظم شعوب تلك المنطقة يؤمنون بدين واحد يضمن أمن وسلامة أبناء الوطن من الديانات الأخرى.  هذه المنطقة العربية تشترك في الحدود والدين واللغة والتاريخ والمصير المشترك وتلك الأمور من شأنها أن تعضد وحدتها وتماسكها، خاصة أنها جميعاً عانت من ويلات الاستعمار الأوروبي وتداعياته. 

 لذلك كان على الاستعمار وقبل أن يحمل عصاه ويرحل، أن يضع كل أنواع المتفجرات والألغام الجيوسياسية، التي من شأنها أن تمزق أواصر الوحدة بين الدول العربية من خلال ترسيم حدود وفق أهوائه واصطناع خرائط استعمارية تؤدي لتوتير الأجواء بين الجيران، ولذلك توجد صراعات حدودية بين معظم وإن لم يكن كل الدول العربية (مصر والسودان - الجزائر والمغرب - قطر والسعودية - العراق والكويت وهلم جرا). من ناحية أخرى سعى الاستعمار وأذرعه في العالم العربي وبقاياه الخبيثة لافتعال صراعات ونزاعات بين الدول العربية، تارة باستخدام العملاء والخونة كما حدث في العراق، وتارة باستغلال أخطاء الأنظمة الحاكمة خاصة في الجمهوريات ذات الحكم الاستبدادي، وأحياناً باستغلال التركيبة القبلية للبلاد مثلما حدث في ليبيا، وأحياناً على أسس تتضمن إقامة أحلاف تابعة له مثل حلف بغداد، وتارة على مرتكزات سياسية وتنوعات أيديولوجية (البعث- الناصرية- الجمهوريات- الملكيات)، وتارة أخرى على أسس دينية ومذهبية وطائفية واهية لإشعال الفتن بين السنة والشيعة، والعلويين والمسيحيين، والإباضيين والزيديين الخ. وطالما لعبت القوى الاستعمارية بورقة الأقليات (دروز - أكراد-أمازيغ - يهود الخ) وهم مواطنون عرب أصلاء لهم جذور في هذه الأرض، وهم جزء لا يتجزأ من هذه الفسيفساء التاريخية الرائعة. 

هذه الأيام ويا للأسف الشديد نشبت صراعات مفتعلة بين مجموعات مشكوك في أمرها اتخذت من مواقع السوشيال ميديا اللعينة ساحة لهذه الصراعات الخطيرة، وأنا لا أستبعد على الإطلاق أن تقف من وراءها دول وأجهزة مخابرات حاقدة، تسعى لتفتيت ما تبقى من أواصر الدين والنسب واللغة المشتركة والعادات والتقاليد التي مازالت تجمع شتات العرب. هذه الحرب الحالية التي تُشن على مواقع التواصل الاجتماعي تعيدنا لمرحلة الجاهلية ومعارك داحس والغبراء، عندما كانت الحروب تندلع بين القبائل لأسباب مضحكة تدعو للسخرية. تذكرني الحرب الدائرة حاليا بين الحمقى والسفهاء والجهلاء من دولتين عربيتين بقصائد جرير والفرزدق وتباهي كل منهما بنسبه رغم أنهما كانا ينتميان لقبيلة واحدة (تميم)، لكن الفرزدق كان من أثرياء القبيلة بينما انتمى جرير لأسرة متواضعة. الفارق أن هذين الشاعرين كانا يكتبان قصائد ذات قيمة بلاغية رغم ما فيها من كذب وادعاءات الجانبين بتفوق النسب وسمو الوضعية الاجتماعية.

 إن الحرب الكلامية الحالية الدائرة بين مجموعتين من شراذم السوشيال ميديا، يزعمان أنهما ينتميان إلى دولتين عربيتين كبيرتين هي أخطر وأقوى من جميع الحروب السابقة التي أشعلها الاستعمار، والتي استخدمت التباينات المذهبية والدينية والعرقية والاختلافات في المواقف السياسية بين الحكومات ونزاعات الحدود بين الدول العربية كذرائع لنسف ما تبقى من التعاطف والتآزر بين الشعوب العربية. في الوقت الراهن والعرب في حالة بائسة من التدهور على كافة الأصعدة - العسكرية والتقنية والعلمية- نجد من يتبادلون الشتائم التي تسيء للبلدين، ويدعون للمزيد من الفرقة والكراهية- نفرٌ يتباهون بأمجاد معاصرة مزيفة لم تحدث سوى في خيالهم وآخرون يتباهون بحضارة رحلت منذ آلاف السنين. 

يا سيداتي وسادتي الكرام: بدلاً من السب المتبادل والفخر بإنجازات عبثية، كنت أتمنى أن يتأمل الشتامون من الطرفين في حالة الأمة العربية ويقارنون بينها وبين أمم أخرى كانت تقبع منذ سنوات قليلة في العربة الأخيرة من قطار التطور–  كوريا الجنوبية – الهند – البرازيل – اليابان – الصين - جنوب إفريقيا- النمور الآسيوية وللأسف (إسرائيل) التي لا يستطع العرب جميعاً هزيمتها لأسباب معروفة. 

يا صبيان وغلمان السوشيال ميديا من الطرفين: بدلاً من الانغماس في الوهم التاريخي أو المعاصر أنظروا إلى دولة تسمى كوريا الشمالية يبلغ عدد سكانها نصف عدد سكان ولاية كاليفورنيا الأمريكية - هذه الدولة تقف شامخة لأن أمريكا التي تحكم العالم لا تجرؤ على مهاجمتها رغم العداء الشديد بينهما لأنها تمتلك مقدرات نووية. فهل تمتلك بلادكم تلك الأسلحة؟ لذلك كفاكم هراءً وخراءً. 

يسعى المغرضون أينما كانوا لترويج حرب جديدة (بعد فشل الربيع العربي الذي كان يهدف لإسقاط الدول العربية) من حروب الجيل الخامس (على مواقع التواصل الاجتماعي وليس في ميادين القتال). هذه الحرب لو استمرت سوف تؤدي لتداعيات كارثية وحروب أخرى انتقامية وثأرية لأن وقودها الشعوب وليس الحكومات والأنظمة. إنها حرب تهدف لإشعال فتيل الصراع بين أبناء الدول العربية النفطية الثرية وأبناء الدول العربية التي تعاني من مشكلات اقتصادية في الوقت الراهن. هذه الحرب إن لم يتم التدخل للسيطرة عليها، فسوف تأتي على ما تبقى من الأخضر واليابس العربي، لأنها تستخدم تقنيات السوشيال ميديا والذكاء الاصطناعي والديب فيك الخ، وهي آليات تدخل كل بيت وذات أثر واسع النطاق ولا تكلف الأعداء سوى نفقات محدودة.

عندما يقرأ المرء، خاصة عامة الناس رسائل على مواقع السوشيال ميديا ممهورة بتوقيع وصور مواطنين من دولة شقيقة، وتتضمن الرسائل شتائم بذيئة أو عبارات نابية تقلل من شأن أبناء بلد عربي آخر شقيق أو تسخر من تاريخه وحضارته الخ- ثم يرد السفهاء من الطرف الآخر بشتائم وقاذورات لفظية مماثلة - عندئذ فإن القارئ العادي على الطرفين سوف يصدق ما يحدث ويتوالى تبادل السب والقذف وتدخل جهات عديدة تؤجج نار الصراع اللفظي بين الطرفين (الكلمة قبس من نور لكن بعض الكلمات فجور). سؤال أطرحه على العقلاء: هل ثمة ما يوكد أن من يرسلون هذه الرسائل الحقيرة هم فعلاً من مواطني هذه الدول العربية محل الصراع؟  من أدراك عزيري ناشط السوشيال ميديا وأنت تتصفح المواقع المختلفة أن الرسالة القادمة لك من (مكة) باسم مواطن عربي وصورة رجل يرتدي الغترة والعقال أو النشرة المرسلة لك من (القاهرة) هي رسالة حقيقية فعلاً؟ هل يمكنك أن تعرف وانت تتحرك في هذا الفضاء الاليكتروني الشاسع من أين تأتيك الرسائل؟ - هل يمكن للمواطن العربي أن يعرف مصدر الرسالة إن كانت من الرياض أو الإسكندرية أو تل أبيب؟ - هل يعلم المواطن العربي إن كان مرسل الرسالة هو سالم الغامدي من مدينة الطائف أو ليفي كوهين من مستوطنة كريات شمونه؟ سؤال أطرحه على الجميع. 

 في النهاية يجب علينا اتخاذ الحذر وعدم تصديق ما تنشره مواقع التواصل الاجتماعي وفي هذا السياق يزعم بعض المتخصصين أن حرب السوشيال ميديا وغيرها من الحروب لن تنتهي طالما أن هناك كيان لا يتجاوز عدد سكانه نصف سكان عاصمة دولة عربية واحدة يسعى للسيطرة والهيمنة الكاملة - عسكريا وسياسيا واقتصاديا وتكنولوجيا وإعلاميا وثقافيا وعلميا - ليس فقط على الوطن العربي ولكن على منطقة الشرق الأوسط بأسرها. وأنا شخصياً لا ألوم هذا الكيان الذي نجح في توسيع الفجوة الحضارية بينه وبين شعوب المنطقة، والآن يسعى لتفتيت ما تبقى من روح الأخوة العربية.  لكني أوجه اللوم إلى جيل السوشيال ميديا العربي الحالي الذي لا يعرف معظمه أي شيء عن تاريخ المنطقة ولا عن أوضاعها الجيوسياسية، ولذلك يتم استغلاله من قبل أجهزة ودول لا تريد أن تتقدم الشعوب العربية قيد أنملة إلى الأمام. 

 طابت أوقاتكم.
--------------------
بقلم: د. صديق جوهر
أكاديمي وناقد 

مقالات اخرى للكاتب

حرب جديدة: غلمان وجواري السوشيال ميديا