انتهت الحرب التي شنها الكيان الصهيوني على إيران يوم الرابع والعشرين من يونيو، بعد العرض الذي قدمه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لإيران، بإيقاف اطلاق النار. فما الذي جعل ترامب يبادر إلى الاقتراح بإيقاف الحرب؟؟ ولماذا استجاب كل من الكيان الصهيوني وإيران بهذه السرعة؟؟
أتصور أن الإجابة على هذين السؤالين تكمن، أساسا، في فشل الكيان في تحقيق الأهداف التي من أجلها شن هذا العدوان من الضربة الأولى، أو حتى من الضربات التي تلتها. وتمثلت تلك الأهداف فيما يلي:
- الإجهاز على المشروع النووي الإيراني، عن طريق تدمير المنشآت النووية وقتل العلماء والقادة المسؤولين عنه.
- تدمير البرنامج الصاروخي والقوة الصاروخية الضاربة، عن طريق تدمير المصانع والمخازن وقتل المهندسين والضباط والقادة.
- تدمير الدولة الإيرانية عن طريق اغتيال قادة الجيش والحرس الثوري، ورجال الدولة. ومحاولة اغتيال المرشد العام: السيد الخامنئي (صرحت بذلك مصادر مهمة في الاعلام الصهيوني) ودعوة الشعب الإيراني للثورة على قيادته. بل وصلت الثقة بهم، في قدرتهم على تحقيق هذا الهدف، الى تجهيز قيادة بديلة موالية لهم وللغرب، تمثلت في ولي عهد شاه ايران (رضا بهلوي) ابن الشاه الذي خلعته الثورة الإسلامية، للعودة لحكم ايران.
ولكن سرعان ما تماسكت أركان الدولة والجيش والحرس الثوري، وقامت ايران بالرد خلال أقل من 12 ساعة. وهو الأمر الذي أدى الى افشال تلك الأهداف.
وعلى الرغم من سياسة التعتيم الكامل التي انتهجتها الدولة الصهيونية، فمن الواضح أن الرد الإيراني جاء مؤلما، بحيث أدى الى وقوع أضرار كبيرة على دولة الكيان وسكانها، الذين ظلوا طيلة اثني عشر يوما في حالة من الهلع والتوتر الناتج عن أصوات الدمار والموت، والتردد الدائم على الملاجئ، كما باتت دولة الكيان في حالة شلل تام، تمثل في اغلاق المطارات والموانئ وتعرضها للقصف والتدمير، وإيقاف الحياة الاقتصادية والتعليمية والسياحية.. الخ. بالإضافة الى الخسائر الرهيبة التي تحققت على مستوى البنية التحتية ومراكز القيادة والمصانع والمختبرات ومحطات توليد الكهرباء.. الخ. وذلك من جراء القصف الإيراني المروع بالصواريخ. خاصة مع استخدام أنواع متطورة للغاية منها في الأيام الأخيرة، مثل الصواريخ الفرط صوتية والعنقودية. ومن المعلوم أن طبيعة المجتمع الصهيوني لا تحتمل حربا طويلة الأمد، نظرا لطبيعته السكانية قليلة العدد، واعتماد جيشه على تعبئة قوات الاحتياط، (وهي تتكون من أصحاب المهن والعمال والموظفين.. الخ. وبالتالي تصبح إطالة أمد الحرب تتم بالخصم من الحياة الطبيعية والإنتاجية لمجتمع الكيان). وخاصة أن الحرب تدور هذه المرة بالكامل على أرضه وفي قلب مجتمعه.
وبناء على هذا، فانني أعتقد أن مبادرة إيقاف الحرب قد جاءت بطلب من رئيس وزراء العدو: بنيامين نتانياهو، رغبة في التقاط الأنفاس وتفاديا لهذا الكم الهائل من الخسائر التي لم يعد من المستطاع احتمالها. وبخاصة ما نجم عن شدة القصف من هروب أعداد كبيرة من المستوطنين، عبر البحر، متجهين الى قبرص، أو عبر البر، متجهين الى سيناء، ومن ثم السفر بالطيران الى بلدان العالم المختلفة.
وأكثر ما يمكن أن يكون مقلقا للمسئولين في دولة الكيان، هو ورود احتمال عدم عودة الكثيرين منهم الى الكيان، مرة أخرى. بعد ما لاقوه من أهوال، (ربما لأول مرة، منذ قيام الكيان عام 1948). فضلا عن القضاء التام على فكرة استقبال مهاجرين جدد لهذه الدولة، (فلم تعد إسرائيل أرض اللبن والعسل بل أصبحت أرض الدمار والخراب). هو ما يهدد الوجود الديموجرافي، الهش أصلا، للكيان.
اذن، فلقد عانى الكيان وسكانه كل تلك الويلات بينما لم تحقق الحرب شيئا من أهدافها، بل ان ارتداداتها قد نالت منهم بعنف، وعلى نحو غير معهود ولا متوقع، فتحولت الى كارثة اقتصادية ومجتمعية على النحو السابق ذكره. ومن هنا أضحى مطلب إيقافها أمرا ملحا، للغاية، بالنسبة للاسرائيليين.
بيد أن لكل من الجانبين: الأمريكي والإيراني أسبابه هو الآخر، في إنهاء هذه الحرب. وسنلاحظ أن الأسباب الخاصة بالأمريكيين يتقاطع بعضها مع الأسباب التي تميز بها الطرف الصهيوني. ويبقى للجانب الإيراني أسبابه الخاصة بأوضاعه الداخلية وبحلفائه الخارجيين، على حد سواء
أما في الجانب الذي يخص الولايات المتحدة الأمريكية فيمكن رصد أسباب سعيه لإيقاف الحرب فيما يلي:
1 - أن الأهداف التي تم شن الحرب من أجلها، والتي تم ذكرها آنفا، أضحت غير قابلة للتحقق، على الأقل، في الظروف الراهنة، وبالتالي فان الاستمرار في الحرب يعد أمرا عبثيا لا طائل من ورائه.
2- الخوف من التورط في حرب طويلة الأمد، وما يمكن أن ينجم عن ذلك من تداعيات، لن تكون في صالح الأمريكان، في كل الأحوال. خاصة مع الأزمة البنيوية التي يعانون منها، على المستويين: الاقتصادي والاجتماعي (تراجع الاقصاد الأمريكي، وزيادة التضخم، وتفاقم المديونية، وازدياد معدلات البطالة وأزمة المهاجرين.. الخ).ومن هذه التداعيات: احتمال اتساع الحرب، عن طريق تدخل قوى أخرى، مثل الصين وروسيا، يهمها استنزاف الولايات المتحدة وتوريطها في حرب طويلة، كالتي عانتها في كل من فيتنام وأفغانستان.
3 - الخوف من أن يؤدي استمرارالحرب واتساعها إلى أزمة اقتصادية عالمية، حيث من الممكن أن يتم تهديد طرق التجارة والملاحة الدولية وإغلاق مضيقي: هرمز، وباب المندب. فضلا عن الكابوس الذي يمثله احتمال تم تدمير آبار النفط في بلدان الخليج.
4 - انقاذ اسرائيل من الورطة الكبرى التي انغرست فيها، ولم يعد لديها من خيار سوى تلقي الضربات ودفع الأثمان.
ولذا أصبح انهاء هذه الحرب، بالنسبة للولايات المتحدة، ضرورة ملحة. بيد أن هذا لم يمنع من محاولة استثمارها، على طريقة دونالد ترامب الاستعراضية البهلوانية، والظهور بمظهر رجل السلام الحريص على حقن الدماء. ولكن الأهم بالنسبة له، هو تأكيد صورة الرجل القوي القادر على الإمساك بزمام الأمور والتحكم في الصراعات وإيقاف الحروب. فقد ادعى القيام بهذا الدور في الحرب المحدودة التي نشبت بين الهند وباكستان، وحاول تحقيق ذلك في الحرب الراهنة عن طريق عرض إيقاف الحرب على ايران، والتظاهر بإعطاء التعليمات لرئيس الوزراء الصهيوني "بإعادة الطائرات المهاجمة، من الجو، بعد القاء التحية الودية". بينما هو يحاول، في الحقيقة، التغطية على خسارته وخسارة حليفته إسرائيل. خاصة، أنه قد شارك، بصورة فعلية، في تلك الحرب على المستويين: المباشر، عن طريق قيام الطائرات الأمريكية الشبحية من طراز b2 spirit بضرب المنشآت الخاصة بالمفاعلات النووية الإيرانية، باستخدام قنابل اختراق الأعماق gbu57. وكلا السلاحين لا يمتلكهما الكيان. وهو ما يعني أن الأمريكيين قاموا بمشاركة نوعية واستثنائية في الحرب. أما على المستوى غير المباشر، فقد شاركت الولايات المتحدة عن طريق تقديم الدعم المطلق لدولة الكيان. سواء، بالسلاح، أو بالديبلوماسية، أو التسهيلات اللوجستية.. الخ.
أما بالنسبة الى ايران، فلابد من الإقرار بأنها قد تلقت ضربات مؤلمة على كل المستويات، ليس فقط، على مستوى اغتيال عدد كبير من القادة العسكريين والعلماء، ولكن أيضا، على مستوى التدمير الهائل الذي طال المنشآت والمطارات ومخازن الأسلحة.. الخ. كما ظهر الانكشاف الكبير للمجال الجوي الإيراني، سواء من حيث غياب القوة الجوية الإيرانية على صعيد الطائرات المقاتلة، كما وكيفا، أو من حيث الضعف الملحوظ لقوات الدفاع الجوي الإيراني، وهو ما أدى الى سيطرة واضحة من قبل السلاح الجوي الصهيوني على سماء ايران.
وعلى الرغم من بعض التصريحات المؤيدة لإيران التي صدرت من كثير من حلفائها الدوليين (الصين، روسيا، باكستان، كوريا الشمالية) فان صانع القرار الإيراني لم يجد ما يدعوه للاعتماد على دعمهم الفوري والناجز، في حال استمرار الحرب. فلكل منهم حساباته الخاصة والتي قد لا تلبي حاجة الإيرانيين على النحو الذي يجنبهم المزيد من الخسائر. ولذا وجدت ايران نفسها وحيدة، تقريبا، في ميدان المعركة. خاصة بعد اضعاف القوى الحليفة لها، في المنطقة، المتمثلة في "حزب الله" اللبناني و"الحشد الشعبي" العراقي. حتى "جماعة الحوثي" اليمنية، يبدو أن قدراتها قد تضررت بشدة من جراء الضربات التي تلقتها في الهجمات الأمريكية والاسرائيلية. فلم تحرك هذه الحركة ساكنا طوال أيام الحرب، باستثناء بعض التصريحات والمواقف الحماسية. ولذلك يمكن القول بأن استمرار هذه الحرب لم يكن في صالح ايران، خاصة أنها لم تتوفر لديها أهداف محددة منها، اللهم الا صد العدوان وإيلام العدو.
من هنا يتضح أن إيقاف تلك الحرب كان مطلبا ملحا من قبل جميع أطرافها. لذلك جاءت الاستجابة على هذا النحو الملحوظ.
ولكن أسئلة أخرى قد تطرأ في هذا المقام، ألا وهي: هل ما حدث يعد توقفا فعليا لحالة الحرب بين كل من الكيان الصهيوني (وداعميه)، من ناحية، وايران، من ناحية أخرى؟؟ أم أن تلك المواجهة لم تكن سوى جولة ستتلوها جولات، وأن ما جرى من إيقاف لها هو مجرد هدنة وسرعان ما ستندلع مرة أخرى؟؟ وما مكاسب ايران وما خسائرها في تلك الجولة؟؟ وبالمقابل ما الخسائر والمكاسب لدى الصهاينة والأمريكان؟؟ وما وضع دول الخليج في تلك المعادلة الحربية؟؟ وما تأثير كل ذلك على الوضع المصري في المنطقة؟؟
سأحاول الإجابة على تلك الأسئلة في المقالات القادمة.
-------------------------
بقلم: د. صلاح السروي