26 - 06 - 2025

نتانياهو وفن تزييف ذاكرة الحرب

نتانياهو وفن تزييف ذاكرة الحرب

في خطابه الشعبوي، خلال الحرب الإسرائيلية الإيرانية، برر رئيس الوزراء، بنيامين نتانياهو إقدام الحكومة الإسرائيلية على شن الحرب أنها كانت بغرض تجنب "هولوكوست نووي" يمكن أن تتعرض له إسرائيل حال امتلاك إيران قنبلة نووية.

باستخدام هذا البعد، لا يعلن نتانياهو الحرب وحسب، بل يعيد صياغة ذاكرة شعبه ويثير مخاوف العالم مستخدمًا عبارات ذات دلالات دينية في العقيدة اليهودية، تغطي من جانب بُعدًا توراتيًا لمفهوم التضحية والفداء، ومن جانب آخر تُرسخ عقيدة اليهودي المنبوذ والمضطهد من الآخرين، إلى جانب استدعاء ثلاثة مشاهد رئيسية؛ دينية، وتاريخية، ووجودية.

وكالعادة يأتي المشهد الديني: استدعاء الهولوكوست، في صدارة عوامل تحفيز مشاعر المواطنين باستحضار أحد فصول الإبادة الجماعية لليهود على يد الزعيم النازي، أدولف هتلر، خلال الحرب العالمية الثانية، حيث يشير السرد التاريخي اليهودي إلى أن نحو ستة ملايين شخص تم إبادتهم، والذي يُعدُ من أكبر التهديدات التي واجهها اليهود.

من هنا، تحوّل الهولوكوست إلى مكون أساسي يحظى بطقوس دينية خاصة، فضلاً عن تمتعه بسردية مقدسة في نُظم التعليم والإعلام، شكلت وعيًا يهوديًا جماعيًا وجعلته أحد مكونات الهوية الرئيسية، وسببًا رئيسيًا لوجود "دولة آمنة لليهود".  

ويعد هذا أحد الأسباب الرئيسية للدعم الأمريكي والغربي غير المحدود لإسرائيل، خاصة بعد أكتوبر 2023؛ إذ تحولت مخازن السلاح الأمريكي إلى مخازن استراتيجية لإسرائيل تسحب منها في أي وقت، مع ضمان تفوق عسكري تمثل في إرسال حاملات الطائرات "جيرالد فورد" وطائرات F-35، وكذلك منظومة القبة الحديدية.

هذا وبالإضافة إلى الدعم المالي السنوي البالغ 3,8 مليار دولار، فقد وافق الكونجرس في نوفمبر 2023 على حزمة مالية تجاوزت 14 مليار دولار.

ومع أن الدعم الأمريكي يُعد الأبرز، فقد أكد قادة مجموعة السبع G7 في اجتماعهم الأخير بكندا هذا الأسبوع، على ضرورة تدمير القوة النووية الإيرانية، مما يمنح إسرائيل ضوءًا أخضر للتصعيد متى شاءت، كما دعا القادة إلى محاسبة إيران إذا ثبت تورطها في إمداد روسيا بصواريخ وعتاد عسكري في حربها ضد أوكرانيا.

ومن استدعاء الذاكرة الدينية، ينتقل الخطاب إلى التاريخ السياسي الأكثر دموية باستحضارذاكرة ضرب هيروشيما وناجازاكي اليابانيتين بالقنابل النووية من جانب أمريكا في أغسطس 1945، وما خلفه ذلك من دمار تام للمدينتين، راح ضحيته أكثر من ربع مليون قتيل، فضلاً عن المصابين، ما عجّل بقرار اليابان للاستسلام في نهاية الحرب، من هنا يضع رئيس الوزراء الإسرائيلي المشهد أمام أعين مواطنيه، ليدركوا أن خسائر الحرب مع إيران وغيرها من دول المنطقة، مهما عظمت، فإنها لا تقارن بما تم تجنبه من ضحايا ودمار، في حال امتلاك إيران القنبلة النووية. 

اللافت في الأمر، أن كلا المشهدين الأول والثاني يستدعيان من الذاكرة مآس نفذت الأولى منها دولة أوروبية؛ ألمانيا، والثانية الولايات المتحدة الأمريكية، في إشارة ضمنية إلى تناقضات القوة الغربية.

وهو ما ينقلنا إلى المشهد الثالث: إيران كتهديد وجودي، من خلال ترسيخ سردية أن الهدف الرئيسي من الأنشطة النووية الإيرانية يتمثل في امتلاكها قنبلة نووية لضرب إسرائيل. في المقابل، تدافع إيران عن أنشطتها النووية باعتبارها أنشطة "سلمية"، وتتهم الغرب بـ"ازدواجية المعايير"، خصوصًا مع تجاهل الترسانة النووية الإسرائيلية.

من هنا لم تعد مشاهد الضحايا والمصابين والإقامة في الملاجئ المحصنة تحت الأرض وتدمير المباني يدعو رجل الشارع في تل أبيب إلى إسقاط الحكومة، بعدما ترسخ في ذهنه أن البديل يتمثل في وضع الدولة كلها على محك الفناء، وأن كل يوم يمر في الحرب يجعل إيران أضعف من ذي قبل، مما يعجّل بنهاية الحرب، خاصة إذا دخلت أمريكا بشكل مباشر، وهو ما بدأ يتردد في أروقة البيت الأبيض، وهو ما يعزز القناعة بأن إسرائيل غير قادرة وحدها على حسم الحرب وحدها.

لا تتوقف سردية نتانياهو حشد القوى الغربية ضد إيران فقط، بل يتجاوزها إلى حدود تزييف ذاكرة الحرب، وتحويلها إلى حرب ذات أصول عقائدية تستدعي روح الحروب الصليبية (1096 – 1291).

حفظ الله الوطن.
---------------------
بقلم: 
د. محمد مصطفى الخياط
[email protected]

مقالات اخرى للكاتب

نتانياهو وفن تزييف ذاكرة الحرب