25 - 06 - 2025

أزمة التنوير في مصر بين الإقصائية والأصولية

أزمة التنوير في مصر بين الإقصائية والأصولية

في غالب الأحيان، لم يكن التنوير في مصر قضية معرفية بقدر ما كان يعكس التباينات والاختلافات الأيديولوجية والسياسية . لذلك تعثر ولا يزال يتعثر. لا شك أن البدايات كانت قوية ومبشرة إلى حد كبير، ولكن حتى تلك البدايات كانت مرتهنة بالسياسة ارتهانا كان كفيلا بشل حركتها، لذلك لم يُكتب لها الاستمرار. حتى قبل تأثير الأحزاب والتيارات السياسية على العملية التنويرية في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين، كانت الدولة حاضرة وبقوة حين بدأ رفاعة رافع الطهطاوي (1801-1873) نشاطه في الترجمة والتأليف. رغم كل الحيل المعرفية التي بذلها الطهطاوي لكي يلتف حول حضور محمد علي باشا ومشروعه التحديثي السلطوي، الا انه لم يُحدث أكثر من شرخ طفيف في الجدار السلطوي باعتباره أولا وأخيرا موظفا في دولة الباشا.  

حين انفجرت أزمة كتاب الإسلام وأصول الحكم لعلي عبد الرازق عام 1925 فوجئت الأوساط الثقافية بزعيم الامة سعد زغلول مؤيدا الأزهر في موقفه من علي عبد الرازق. كان سعد زغلول وحزب الوفد في ذلك الوقت معروفا بليبراليته ومواقفه التنويرية. لكن انتساب علي عبد الرازق للأحرار الدستوريين منافس الوفد أملى على زعيم الامة موقفا سياسيا و ليس معرفيا. وقس على ذلك عشرات الأمثلة. 

هناك العديد من المصادر الغربية والعربية حول قضية التنوير في مصر حيث كانت تجربة التنوير المصرية - على علاتها - قاطرة التنوير في كل الأقطار العربية بداية من المغرب العربي وحتى الخليج. بل إن الماليزيين والإندونيسيين ما زالوا حتى الآن يقرأون بنهم رموز التنوير المصري من الطهطاوي إلى نصر أبو زيد وحسن حنفي. من الكتب العمدة في هذا المجال كتاب ألبرت حوراني: الفكر العربي في العصر الليبرالي (1898-1939). لكن من الملاحظ أن الكتابات المصرية العميقة حول الموضوع قليلة باستثناء جهود لويس عوض ويونان لبيب رزق وعفاف لطفي السيد. 

ورغم زخم الكتابات الغربية وعمقها إلا أن القضية التي أريد أن أناقشها اليوم تكاد تكون غائبة. أنني مهتم بموضوع تعثر التنوير في مصر بين الإقصائية و الأصولية. و جذر هذه المشكلة يكمن في غلبة السياسي والأيديولوجي على المعرفي بمنطق الصراع الحزبي. 

الاقصائية و قولبة التنوير 

في إحدى اللقاءات الفكرية حيث كان المتحدث يقدم كتابا ظهر له حديثا طلبت التعليق. وفي تعليقي بدا لي من المناسب الاستشهاد بمقولة صادمة للدكتور محمد الغزالي (1917-1996)  كانت في رايي مناسبة لموضوع الجلسة. يقول الدكتور محمد الغزالي في كتاب المحاور الخمسة للقران الكريم "التدين الزائف قد يكون أنكى بالشعوب من الالحاد الخالص." فورا ظهرت علامات الامتعاض و الاستهزاء على ملامح وجه المتحدث ولسان حاله يقول ان الاستشهاد بالغزالي لا يصح لأن الرجل سطحي أو إرهابي او ما شابه ذلك. الدكتور محمد الغزالي يستخدم لغة بسيطة ولكن الكثير من أفكاره تعد عميقة ومؤثرة في سياق الفكر الإسلامي المعاصر. مقابل هذه الواقعة هناك عشرات الامتعاضات من إسلاميين اذا استشهدت أمامهم بجلال أمين أو رفعت السعيد أو غيرهم. هذا التترس أو التخندق الذي يذبح التنوير المعرفي الحقيقي بنصل حاد لصالح الأيديولوجية هو ما أسميه بالإقصائية لدى الطرف العلماني و الأصولية لدى الطرف الديني. 

المعايير السائدة لدى المثقفين المصريين الذين انحازوا للخيار العلماني أن أي خطاب يريد أن يحظى بصفة "التنويري" لا بد أن يكون علمانيا وعقلانيا تماما بالمفهوم الديكارتي أو الكانطي. مع كامل احترامي لقيمة العلمانية و العقلانية، لكن هل ينحصر التنوير في هاتين الصفتين أم ان في ذلك تضييق للواسع؟ بعد عقود عديدة من اندلاع شرارة التنوير في مصر ، يعيد العديد من المفكرين المنتمين للحضارة الغربية التي شهدت ميلاد التنوير مراجعة الصفة الحصرية للعلمانية والعقلانية الصارمة . اقرأوا ان شئتم نص مقالة التنوير لكانط (1724-1804) والتي نشرت عام 1798 وكان مصطلح العلمانية معروفا. لم يشترط كانط  العلمانية كقيمة ملازمة للتنوير. 

التنوير الاقصائي أدى الى إفقار الحوار وانعدام مقومات الوصول الى صيغ تقاربية مشتركة. والأسوأ من ذلك أنه يعطي فرصة سانحة للإقصاء الأصولي أن يلعب دور الضحية ويتشدد في إقصاء الآخر العلماني كرد فعل. ولكي أتوخى الموضوعية أقول أن عوامل مساعدة للاقصاء تتوفر في الخطاب الاصولي حتى من غير اقصاء مضاد، لأنه ببساطة كونك تتمسك بالنص الديني فان هذا يجعل الانزلاق نحو الاستعلاء الميتافيزيقي الديني أسهل بكثير. و كم أتوق الى فترات في بداية المد التنويري حيث كان من الممكن لشيخ من الأزهر (محمد فريد وجدي) أن يرد على كتاب "لماذا أنا ملحد" لإسماعيل أدهم بكتاب أخر بعنوان "لماذا أنا ملحد" بدلا من تكفيره. 

الإقصاء الأصولي

دأب المعتدلون من أصحاب المشروع الإسلامي على نعت الخطاب العلماني بـ"التنوير الزائف". لا تقل الأصولية الاقصائية ضررا وضراوة فيما يتعلق بخطاب التنوير.  ويستسهل أصحاب الخطاب الديني أن يدغدغوا مشاعر الغالبية بحشد أكبر عدد ممكن من النصوص. وأنا هنا لا أستمريء أو أستعذب فكرة أن التطرف الديني ما هو إلا رد فعل على تطرف بعض "التنويريين"، فهذه فكرة مريحة لمن لا يريد أن يجهد نفسه بالبحث والمعرفة. ولكن عقلية التخندق وفرض المعايير من الجانبين أفسدت مسيرة التنوير في مصر في اعتقادي المتواضع. ربما ما سأقوله في السطور القادمة سيكون صادما للبعض ؛ علينا أن نتعلم التقارب والحوار من رواد الحركة الصهيونية، ففي نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. انقسم اليهود في أوروبا وروسيا والولايات المتحدة في هذه الفترة إلى تيارات دينية وفلسفية شديدة التباين من أقصى اليمين الديني المتشدد إلى الالحاد الكامل. ومن أقصى تيارات الذوبان والاندماج في المجتمعات الغربية - خاصة الولايات المتحدة - إلى أقصى تيارات التعصب الاثني والقومي والتمسك باستيطان فلسطين. كيف عالج الرواد الصهاينة هذا التمزق الرهيب؟ من خلال فتح آفاق الحوار بلا حدود والعمل الفكري المستمر من خلال الكتب والمؤتمرات والنوادي. والأهم من ذلك كله عدم إقصاء أي رأي مهما بدا تشدده.  ربما من أكثر الكتب تفصيلا في هذا الشأن كتاب مارك ريد "بزوغ الصهيونية الأمريكية" 

قد يبدو الموضوع معقدا جدا. لكن يمكن تلخيصه في عبارة واحدة: ليس كل ممن ينادي بالعلمانية كافرا أو مقلدا للغرب، وليس كل من يؤمن بالمشروع الإسلامي إرهابيا تكفيريا. دعوا التنوير يأخذ مجراه.
---------------------------
بقلم: محمد الأنصاري

مقالات اخرى للكاتب

أزمة التنوير في مصر بين الإقصائية والأصولية