23 - 06 - 2025

الطاعم الكاسى

الطاعم الكاسى

قصة من أخبار العرب ذكرتها وقد صادفت وقتها، ذلك أن الشاعر الحُطَيْئة وكان هجَّاءً حديد اللسان، لم يسلم من هجائه أبوه ولا أمه ولا وجهه الذى يحمله، كان قد قال فى رجل، لعله الزبرقان بن بدر:

"دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد

فإنك أنت الطاعم الكاسى"

فعدَّها الزبرقان هجاءً وإن بدت دعوة بالراحة والخير والنعيم، فجاء إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب يشكو إليه أن الحطيئة قد هجاه، فتوقف أمير المؤمنين عن القطع فيها برأى حتى يستشير أهل هذا الفن من الشعراء؛ فهم به أعلم، فأرسل إلى حسان بن ثابت رضى الله عنه يسأله عن البيت: أهجاه؟! فقال: بل سَلَحَ عليه؟! أى أعزكم الله قد لطخه بالعذرة (الغائط)!

وها هنا يحدث المرء نفسه: كيف يكون الطعام والكساء هجاءً؟! وهل خرجنا من بيوتنا إلى كدر الدنيا وشقائها إلا طلبًا للطعام والكساء؟! إن اليوم منتهى أمنيات آحاد الناس منا أن يكون هو ذلك الطاعم الكاسى، وما يبالى بعدها من الدنيا بمكارم ولا محاسن! فكيف هو عند سلفنا الأولين يكون عين الهجاء والخزى والفضيحة؟! بل كيف لو بُعثوا فرأوا أن هذا الخُلق ليس فى آحاد الناس بل فى أخلاق الدول والبلدان، فلا يحفز حاكمها ولا كبراءها ولا عامتها هَمٌّ جامع يسعون فيه، ولا ترى عزمتهم تسوقهم إلى أمر أكبر من شهوات أجسامهم، التى تفنى بفنائهم!

لست هاهنا أعيب على الناس أن تأكل وتشرب وتكتسى، فذلك قوام الأبدان، ولست أعيب على دول وبلدان وحكام أنهم يسعون إلي إغناء شعوبهم ورعيتهم، فذلك مما استؤمنوا عليه، لكن ما يعاب أن يرى الناس الحياة كأنها معلف كبير، فذلك من شأنه أن يبنى شحمًا ودهنًا لا أممًا ووطنًا، فإن الآدمى والدواب إذا أكلوا وشربوا ورعوا لم يتمايزوا فيما بينهم إلا بعلو الهمة.
-------------------------------
بقلم: محمد زين العابدين
[email protected]

مقالات اخرى للكاتب

الطاعم الكاسى