هذه مقالة أكتبها وما زالت معركة (الوعد الصادق٣) قائمة، ولست أكتبها لأرجم بالغيب وأقول سيقع وسيكون، فهذا علم ليس عندى، وإننا نحن المفعول بنا لا ندرى أتنقضى هذه الموقعة إلى اتفاق أم إلى شقاق؟ وهل يعقبها صلح أم دمار واستبدال؟ لكنى أكتب مقالتى هذه لأعرض خللًا وجدته مرارًا فى حُسن تقدير بعض العرب لموقع اصطفافهم فى أزمنة الحروب والاضطرابات، ثم أعرض لهم الردود لعلها أن تصيب منهم نفوسًا سليمة الفطرة، وألبابًا مستقيمة الفهم.
فإننى قد أدركت غير موقعة وغير حرب اقتتل فيها الإسرائيليون وشيعة لبنان وإيران، وأثخن كلاهما فى عدوه، فكان كلما وقعت معركة من تلك ظهرت فينا نحن العرب السُّنَّة طائفة متربصة، تظهر الفرحة والشماتة إذا رأوا الدائرة للإسرائيليين على مقاوميهم، فإن كان للمقاومين الدائرة على الإسرائيليين فثبتوا لهم، أو أوقعوا بهم، أو نالوا منهم، وجدت هؤلاء الذين يزعمون وطنية الهوى، وسُنِّية المذهب، وإنسانية القلب وجدتهم ساخرين، مستهزئين، يهونون من ثبات الثابتين، ومن حسن بلاء المقاومين، وينكرون على الناس نصرتهم بالدعاء، أو القلب، أو التمنى!
فإن رأوا أن لمستمعهم من الفطرة والعقل الرشيد ما ينكر عليهم (إسقاطهم واجب الوقت)، شرعوا فى إسماعك (الأسطوانة المشروخة إياها)، فيقولون لك: أنسيت ما فعل الشيعة الفرس وأتباعهم بأهل سوريا؟! أما علمت أنهم ينكرون من القرآن ويسبون الصحابة؟ ويقول آخر: أما رأيت مطامعهم فى بلاد العرب، فهم وإسرائيل سواء؟!
وإن إنكار كلام هؤلاء أهون من أن نكتب فيه مقالة، فإنه لا يثبت ببيِّنة، ولا تقوم له حجة، وصاحب الفطرة المستقيمة يأباه وتنكره نفسه ولو كان أُمِّيًّا أو عامِّيًّا أو صغيرًا، لكننا نرد عليهم لنردهم هم وأتباعهم إلى الفطرة الأولى، والعقل السوى، والمصلحة العامة؛ لأن مثل هذه الأقلام والأفهام والكلام إذا عملت عملها، وعاثت إفسادًا فى عقول عامة الناس فإنه يمهد فى نفوسهم لقبول الاحتلال الإسرائيلى لأى بلد من بلداننا من غير إنكار لا باليد ولا باللسان ولا بالقلب.
فلنرجع إلى العقل، فأما احتجاجهم بما فعلت إيران وطوائفها غى سوريا، فنقول: وهل جئت اليوم تنتصر لأهل الشام بنصرتك الإسرائيليين؟! إن كانت إيران وتابعوها قد أجرموا فى حق أهل الشام من قبل، فهم الآن يقاتلون عدوك أنت الذى غصب مسجدك ودارك وضيعتك، فما وجيعتك؟!
فإن قيل إن إسرائيل اليهودية، وإيران الإمامية كلتاهما على دين باطل، فليضرب الله الظالمين بالظالمين ويخرجنا من بينهم سالمين، فنقول لهم: وهل فى دين أهل السُّنَّة (وأنا أحدهم) أن نُسَوِّى بين من ينكر النبوة والرسالة المحمدية بجملتها وقرآنها وسنتها، وبين آخر شهد بالرسالة المحمدية، وأقرّ بالقرآن، وبأركان الإسلام، غير أنه ابتدع وتأوّل وأحدث؟! إن إشغالكم الأمة وتفريقها فى مقارنات المذاهب، ومعرفة الفَرق بين الفِرَق فى وقت حرب ليس من الفطرة ولا العقل ولا الدين فى شىء، بل واجب الوقت أن تُعَلِّموا الناس أنهم إذا دهمهم عدو ليس منهم فكلنا أمة واحدة وجسد واحد، فلا مذهب ولا فِرقة ولا فُرقة، فإن وضعت الحرب أوزارها فعودوا فعلِّموا الناس مذهبهم وحذروهم المخالف، وبعض من هؤلاء تجده يصمهم بأنهم مجوس عبدة النار وأنهم يهود أصبهان، ونحو ذلك، وهو كلام يعيب قائله ولا يعيب المقول فى حقه، فكلنا يعلم أنهم ليسوا من اليهود ولا من المجوس، وأنهم قد فارقوا كلتا الملتين، واتخذوا التشيع مذهبًا لهم، فعلامَ السفاهة؟!
فأما قول بعض الوطنيين والقوميين: نحن عرب وهم فُرس، وهم لهم أطماع ومآرب فى بلادنا، فأقول: صدقت، هم فُرس، وهم نبت هذه الأرض ولم يُستجلَبوا من أصقاع الأرض، وجهدهم فى الحضارة الإسلامية عظيم جدًّا لا يُنكَر، فلا جنس الفُرس يعيبهم، ولا اللسان الفارسى يشينهم، ولا يزالون مفتخرين بأصلهم الفارسى فلم ينكروه، ولم يجحدوه، ولم يمالئوا الصهاينة، بل أعانوا على مقاومتهم، أما أنت أخى العربى القُحُّ، يا من تزعم انتسابًا، وتتيه فخرًا فقد رضيتَ أن تتصهين وتمالىء الإسرائيلى، حتى قد صار بعضنا أشد صهيونيًّة من بعض اليهود!
أما قولهم: إن للإيرانى أو للفارسى أطماع ومآرب فى أرض العرب فلذلك نحن نعاديه، فأقول: يا (طيب)، هذا البولندى والروسى والحبشى المدعوون بالإسرائيليين قد قتلوا أخاك بفلسطين (شقيق أخيك السورى الذى تبكى عليه)، ثم سكنوا أرضك، واستغلوا غازك، وأخذوا مسجدك (إن لم تكن تنازلت عنه) فما عذرك لتتصهين وتواليه وهو أطماعه فيك كأطماع الإيرانى أو أكبر؟! بل ما حاجتك لتُسارع إليهم بالزُّلفَى؟! لقد جعلك الله أيها الأخ العربى السُّنِّى على خزائن الأموال والطاقة، فلو عرفت قدرك لعلمت أنهم هم الأحوج إليك، ولتقربوا إليك ليضمنوا الدفء لبيوتهم والطاقة لمركباتهم!
أما خوفك أيها العربى السنى من التوسع الإيرانى الفارسى، فسأقول لك الحق: "إن الأجدر بك أن تخاف ضعفك، وليس أن تخاف إيران" فلو لم تكن ونكن جميعًا ضعفاء لا نحمى حمانا، ولا نذب عن حياضنا، وليس لنا همة ولا عزم كتلك الهمة والعزمة الفارسية، ولو لم تكن كبار مطامحنا أن يكون عندنا أطول كذا، وأعظم كذا، وبينما الفارسى يقيم المفاعلات يقيم أهلنا الحفلات والمراقص! فلا عجب أن يستحل غيرك حديقتك الخلفية والأمامية وما بينهما، فإن القوة تكره الفراغ، فإن نهضت وهممت وعزمت لزم الفارسى وغير الفارسى حدوده.
فإن قيل: إن الفارسى ليس يدافع عنا، بل يدافع عن بلده ونفوذه، فما انتفاعنا به إن انتصر أو انكسر؟! فأقول: حق أنه يدافع عن بلده ونفوذه، لكن وهو يفعل ذلك فإن كل ضربة منه تؤخر السكين عن عنقى وعنقك، وترد عنا الدور إلى حين، فإنك أيها العربى السُّنِّى لست فى عين الإسرائيلى إلا إيرانى بدشداشة وشماغ، وأنا عند الإسرائيلى لست إلا إيرانيًّا لا يتحدث الفارسية، والإسرائيلى عينه تطمح جنوبًا إلى مدينة رسولك صلى الله عليه وسلم الذى تنافح عن سنته، وهو غربًا يتشوف نيل مصر، فكلما ثبت الإيرانيون (أو أى مقاوم) وأثخنوا فى العدو كان ذلك آمن لى ولك ولسائر الأمة، أما إذا ما أفلح الإسرائيليون فأضعفوا إيران، أو أسقطوا سلطتها القائمة، أو أحلوها لأنفسهم كغزة ولبنان وسوريا، وهذا لا أتمناه ولكن بعضه وقع وبعضه متوقَّع، فما يمنعهم بعدها أن يعيدوا الكَرَّة فى الرياض أو القاهرة إن لم يرضَ عنهم الهوى الإسرائيلى؟! إننا إن ارتضينا هذا فى طهران اليوم فهو إقرار منا بأن الإسرائيلى هو الحاكم نافذ الكلمة على الجميع، أفترضاه عروبتك؟! أفيرضاه مذهبك؟! أفترضاه لولى أمرك؟!
وخاتمة القول، إننى أعلم ما صنعت المذهبية الإيرانية فى غير بلد من بلادنا، وأعلم المطامع الخفية لها، وأعلم خطر فتنتهم على عقيدة أهل السنة، ولكنى أعلم كذلك وبيقين أكبر مآرب الإسرائيلى، وأعلم أنه إذا اقتتل الإسرائيلى والشيعى الفارسى فإن واجب الوقت ليس التذكير بالمذاهب، بل رد العدو المعادى لكلا الفرقتين، ثم ننظر فى أمرنا من بعد، وإلّا تسلط العدو علينا جميعًا وأذلنا جميعًا، فإن المقاوم فى إيران مع كل صاروخ هو يرد أو يؤخر مكيدة عن القاهرة والرياض، فإن لم تكن مقاومًا أو عونًا لمقاوم فلا تتصهين، فإن مغبة تصهين العرب جد خطيرة.
------------------------------------------
بقلم: محمد زين العابدين
