19 - 06 - 2025

رشقة أفكار | دفتر عزاء مفتوح.. مؤلم السطور!

رشقة أفكار | دفتر عزاء مفتوح.. مؤلم السطور!

- اعتراف: هذه السطور محاولة للحديث عن محمد السيد إسماعيل منذ رحيله وحتى اليوم.. لكنها في كل مرة لا تكتمل! فشلت في الكتابة عنه منذ أنبأتني دموع صديقنا الصحفي مجدي صالح عن رحيل محمد.. في ذلك الثلاثاء الرهيب من شهر مايو الماضي.

- فقط كتبت سطورًا من وحي الاحزان: الكلمة كالروح.. إذا اختنقت تموت. كلماتي مخنوقة منذ رحيل محمد السيد إسماعيل.. ماتت كما مات.

وقالت لي اليس جابر: "إذا رحل فربما عليك أن تحمل صوته بالاضافة لصوتك.. لاتنسحب؛ فالانسحاب خيانة!" وكأنك يا "أليس" وأنت بعيدة في المنيا تعرفين ما نفكر فيه!

- وكتب الشاعر والفنان  أحمد نصر ردًّا على كلماتي المختنقة: لم يمت محمد  إسماعيل.. لكنها فترة من سكون لن تطول، "وقيامة الماء" بعث من جديد.

- كم هي عبثية - الكتابة - هذه الأيام!

- مثلًا.. نقول كل يوم الكثير، ونكتب الكثير.. رشا أسعد قنديل كتبت كل شيء، دفعة واحدة، ووثقته بالمعلومات والمصادر والدلائل.. ولم يتغير شيء، ولن يتغير شيء.. "لقد خلقنا الإنسان في كبد".. وسنبقى كذلك!

ومثلما هناك "كَبَدٌ عظيم" خلق الانسان ليعيش فيه، سيبقى هناك أيضًا "كبدٌ متليف فاشل"، يتسبب فشله في موت الناس!

كبد محمد السيد إسماعيل فشل أن يبقيه معنا لبضع سنين أخرى، ربما لو أبقاه أو كنا رحلنا معًا لكان هذا أفضل جدًّا، فلا تتسرب من بين أيدينا لحظة حنين واحدة!

حنين.. واحترام.. ربما لاحظه  معظم الناس.

من هم هؤلاء الناس؟ الذين لم يعرفوا أن محمدًا قد مات، أو أنه على الأقل في "سبات عميق"؟ ألم يصل إليهم نبأ رحيله؟ أم وصلهم وتجاهلوه؟ الذين هم في الثقافة.. الوزارة.. ودكاكينها.. ومحال بيع الثقافة فيها، وقد كان حريًّا بهم أن ينكسوا علمًا من الأعلام المرفوعة فوق الوزارة؛ ذلك أن محمدًا.. ناقد الشعب.. وشاعر المقاومة.. المبدع شعرًا ونثرًا ومسرحًا.. قد مات.

ألم يأت اتحاد الكتاب نبأ رحيل محمد السيد إسماعيل؟! لم يفكر في نعيه رئيس أو هيئة مكتب!!

لم تنعه أيضًا وزارة الثقافة، ولم تقل عنه حرفًا، ولا حتى هيئة الكتاب التي طبعت له كثيرًا من الكتب، ولا هيئة قصور الثقافة! الدكتور خالد أبو الليل نائب رئيس هيئة الكتاب حضر حفل تأبين محمد السيد إسماعيل أمس الثلاثاء (١٧-٦-٢٠٢٥)، في أتيليه القاهرة، حرص على الإعلان عن حضوره بصفته الشخصية.. وإن وعد أسرته بأنها إذا طلبت أو احتاجت شيئًا من هيئة الكتاب فلسوف تكون طلباتهم مجابة، فمحمد له مساهمات كبيرة في هيئة الكتاب، ومعروف لدى أقطابها ومسؤوليها.

"قَصّرَ الجميع  في حقه".. هكذا لاحظ محمد عبد الباسط في حديثه معي قبل انطلاق حفل التأبين، حينما نظر إلى القاعة فلم يجد أغلب من كان محمد يتجشم عناء قراءة أعمالهم، ونصحهم، وتوجيههم، والكتابة بعد ذلك عن إبداعاتهم.. كثير منهم - عدا مروة نايل - التي حضرت من "مدينتي" لتذكر أن كل كتاب لها يذكر مقرونًا باسمه!

الدكتور عمار علي حسن لفت انتباهه أيضًا هذه الحقيقة المؤسفة قائلًا: "لو أن محمدًا أقام حفل طهور في حياته لأحد أولاده أو أحفاده، لامتلأت قاعة مثل هذه بهؤلاء الذين ساعدهم ووقف بجانبهم"، في إشارة موجعة إلى أن أغلب هؤلاء الذين خطبوا وده في حياته لم يكونوا أوفياء معه، وهو ما تحدث عنه محمد عبد الباسط بحزن قائلًا: "الذين تجشموا عناء الحضور من القاهرة أو خارجها لسرادق العزاء لم يزيدوا عن ١٠ من المبدعين أو المثقفين، أما من كان يفترض بهم ملء قاعة العزاء ممن كان محمد يتجشم عناء السفر من طحانوب - مسقط رأسه - يوميًّا إلى القاهرة ليحضر ندواتهم، أو يقرأ أشعارهم أو قصصهم أو رواياتهم، أو يكتب عنهم، فهم الآن في سبات عميق، ولم يأتوا لوداعه!

ليس هذا هو جانب التقصير الوحيد بحق هذا الانسان الذي أسميته في كلمتي "المتفاني ببساطة"، وإنما كان هناك نوع من انعدام اللياقة، أو احترام قيمة الوقت أو الرحيل أو الغياب، فلم نسمع  عن روابط من النقاد أو المثقفين أو الشعراء نوهوا بغيابه، أو أذاعوا  خبر رحيله! الملتقيات النقدية، والمنتديات، والورش، ونوادي الأدب والقصة، وهيئات مؤتمرات الأدباء بالأقاليم، وقصور الثقافة.. كلها لم تذكر محمدًا! كان دفتر عزائه مفتوحًا وأغلب سطوره غير مكتوبة!!

للأسف لم نقرأ نعيًا أو رثاءً لمحمد السيد إسماعيل على جدار قصر ثقافة واحد.. وكل هذه الجهات كان محمد منقذها وبطلها وضيفًا على أغلبها، عندما يعوزهم الناقد القارئ والإنسان المتواضع، الذي يضيء ليلهم الثقافي حينما يوشك على الإعتام.

قلوب أصدقائه وعارفي فضله، ومن منحهم شعاع أمل في مستقبل، وكلمة دافئة تحدت بياتًا  شتويًّا، أجبروا على سكناه بأمر  النقاد  الجبابرة، الذين لم  يأبهوا لهم، حتى جاء هو ونفخ فيهم من روح إبداعه ما يقيم أَودهم الإبداعي.. هؤلاء هم الذين فتحوا دفاتر العزاء، سواء في القلوب والوجدان، أو في واقع الحياة، ومنهم من  كتب  عزاءً ووداعًا مؤثرًا على جدران قلبه.

هل تجاهلوه لأنه كان رجلًا بسيطًا، يأتي من قريته فيمكث بينهم ساعات طويلة، ببنطاله الجينز وقميصه الكاروه، ولا يطلب شيئًا من أحد مطلقًا.. فقط كان تائقًا للجمال.. ومن منا لا يفعل! ومع ذلك أنفق وقتًا طويلًا في الإبداع وتعقب إبداع الآخرين.

في يومه الأخير بالقاهرة، بدا لي وكأنه حاول أن يقول كلمة وداع لهواء القاهرة!

ذلك الهواء الذي لمحت غير مرة أنه نسج معه علاقة خاصة، ليمده بالحياة والحيوية، التي لم تمده بها قريته.. التي لم يملك فيها سوى بيتٍ ومدفن!

تلك قصة أخرى تستحق أن تروى.. فإلى اللقاء غدًا.

------------------------------------------

بقلم: محمود الشربيني

مقالات اخرى للكاتب

رشقة أفكار | دفتر عزاء مفتوح.. مؤلم السطور!