الحكمةُ ضالةُ المؤمن، أنّى وجدها، فهو أولى الناس بها، وبَيْد أنّ الأمر كذلك، فقد نشأتُ شغوفا بالمعرفة، تواقا لسبر أغوار الأمور؛ لتبوح بأسرارها وتكشف خباياها .
دفعني هذا المنهج لخوض غمار تجربة مريرة مع زوجين من الغربان، استنفرا عليّ مملكتهما يوما، وكنتُ أنا الملوم حقيقة.
فبعدما سمعت أنّ فرخَ الغراب، ما إن يَكسر جدران بيضته، ويخرج للحياة، يكون لونه أبيض، فيعزِف عنه الأبوان بحجّة أنه ليس فرخهما؛ لأنّ لونه يُغاير لونيهما، فتدركُه هنالك الرحمة الإلهية، ويخرج بجوار عشه دودٌ يتغذى عليه الفرخ الصغير، فيستحيل لونه إلى أسود كلون أبويه، اللذين يحنوان عليه عنئذ بعدما يتيقنان أنه صغيرهما، وليس فرخ طائر آخر.
أخذتُ المعلومة على علتها، دون تثبت؛ إذ لم تُتح لي رؤية صغار الغربان، لاسيما وأن الأبوين يبنيان عشهما أعلى غصون الأشجار المرتفعة بعيدا عن أعين الناظرين، و(سخافة) المتطفلين .
وعن غير قصد، جاءتني الفرصة تمشي على استحياء، وقتما كنتُ في زيارة لابن أختي الكبرى - طيّب الله ثراها - (علاء)، والعائد لتوه من إحدى دول الخليج في زيارة قصيرة لمصر .
ولنتجاذب سويا أطراف الحديث، دون أن يقطع صفوه قاطعٌ، صعدنا أعلى سطح بيته، ضاحية القرية، والذي تحيط به الأشجار من كل جانب، وفيما أنا أُمعن النظر في منظر الأشجار الرائع، أبصرتُ عُشّا لأنثى غراب أعلى شجرة، فاهتبلت الفرصه، وهششتُ عليها بعصا حتى تطير؛ لأرى لون صغارها، فطارت عن بيض أخضر، لم يفقس بعد .
أدهشني لونُ البيض، الذي كان مغايرا لألوان كلّ البيوض.
ومن يومها، أخذتُ أترددُ على العش بعد شروق الشمس، وقبل الغروب؛ لأرى لون الصغار عقب فقس البيض.
طال انتظاري دون أن أملّ، ودخلتُ في (مناوشة) مع أنثى الغراب وزوجها، الذي طفق يصون حماه، كلما هممت أزيح أنثاه عن عشها .
ضاق الغرابان بي ذرعا، وطفقا، يتحسسان خبري، ففي إحدى مرات استطلاعي فقس البيض، وقفا على سور بلكونة بالقرب مني، يطيلان ليّ النظر، فأسقط في يدي، وتملكتني الدهشة، إذ كان تفحصهما لي استنكاريا دون أن يدخلا معي في معركة قبل أوانها.
مرت الأيامُ، وفقس البيض، فألفيتُ الصغار، تشبه الأبوين، وتهاوت المعلومة، التي سمعتها بالأمس، وليس كلّ ما يقال يُصدّق، فمحالٌ أن يفقس بيضُ الغراب حمامة، أو تخرج منه يمامة.
ومرة أخرى، اقتربتُ من العش؛ عسى أن أرى على الصغار تغييرا، وقبل أن أزيح الأنثى عن عشها، باغتني من خلفي ذكرها المغوار ، وضربني بجناحه ضربة قوية، ولا أدري أكانت الضربة على رأسي أم قفاي، المهم أن الغراب ( علم ) علىّ، وطار، ثم عاد ينعق، فلبت نداءه بقيةُ الغربان، التي حلقت فوق رأسي كطيرٍ أبابيل، تنعق بصوت أجش، تزايدَ له وجيبُ قلبي، واضطربت رجلاي، فلم تقويا على حملي. فررت مدبرا ولم أعقب، أقفز درجات السلم؛ خوفا من مناقير الغربان السود، ومخالبها الحادة، وعزمت على ألا أعود .
لم تهدأ بفراري ثورةُ الغربان، إذ هيّج فضولي السّمج لديها رغبة التشفي، فأضحت ترسل سراياها السود فوق سطح البيت، وتمنع صعود أحد، فصار السطح بمناوراتها كثكنة عسكرية، يُمنع فيها الاقتراب أو التصوير .
إلا أنّ عائشة ابنة علاء، ساقها القدر - في يوم نَحسٍ مستمر - إلى السطح؛ لتجلب لأمها شيئا ما، فصعدت تتحسس الخطى، وتتلفت ذات اليمين، وذات الشمال، ولم تلبث أن فوجئت بغراب البين، يهاجمها بمخالبه الحادة، ومنقاره الأسود، ودوىّ بالنعيق، فاستجابت له جموعٌ غفيرة من الغربان، وأحاطت بعائشة إحاطة السوار بالمعصم، فعادت القهقرى، مضطربة، وأثناء قفزها درجات السلم، انثنت رجلُها تحت جسمها النحيل، فأصيبت بشرخ في الساق، لزمت على أثره الفراش .
من ذلك اليوم، أخذ أحفادي المواثيق بألا يعتلوا السطح، حتى يغادره ذلك المحتلّ البغيض، وهم يرددون: هذا ما جناه علينا جدّنا، ولم نجنه نحن على أنفسنا .
وفيما أقصّ لصديقٍ لي ماجرى، قال لي: لا تُذكرني بهذا اليوم المشئوم، الذي قتلت فيه غربا؛ لأعلقه وسط الحقل، حتى تخاف بقيةُ الغربان، التي إن حطت في مكان أفسدت الضرع والزرع، وإن نزلت حقلا، تركته قاعا صفصفا .
واستطرد صديقي: هيّج ما صنعته يدي عليّ بقية الغربان، فحلّقت فوق رأسي، وطفقتْ تنقرني وتنعق، فتتكاثر جموعها، وأنا أهيم على وجهي، أبحث عن ساتر، فلم أجد، فهرعت إلى دراجتي البخارية تاركا الحقل، إلا أنّ جموع الغربان، ما فتئت تطاردني لمسافة ألفي متر، وأنا أصرخ الغوث الغوث، وما من مجيب !
سألته وماذا بعد ؟
قال لا شيء سوى أنه صار لسانُ حالي مع الغربان من يومئذ: فقل سلام، عملا بعبارة ( ابعد عن الشرّ وغني له ) .
أمًنتُ على كلامه، وقلتُ سيكون هذا حالي لا محالة .
(من غواية السيرة الذاتية) .
----------------------------------------------
بقلم: صبري الموجي
- مدير تحرير الأهرام