حين فازت رواية محمد سمير ندا صلاة القلق بجائزة البوكر العربية بعد غياب ثماني سنوات عن مصر والضجة التي صاحبتها؛ ذكرتني على الفور بالرحلة التي قطعها الأب الكاتب الناصري المناضل سمير ندا في المنافي بين بغداد وليبيا وعودته للعمل في مصر بعد سنوات طوال قضتها أسرته تدفع ثمن آرائه.
ولد محمد سمير ندا في بغداد هذه كانت البداية، تخيلت حياة هذه الأسرة في سبعينات بغداد التي استقبلت المعارضين المصريين لزيارة السادات للقدس في زمن الرئيس أحمد حسن البكر ؛ كان مكتب روز اليوسف في بغداد حيث كنت أعمل ذلك الوقت قبلة كل الصحفيين والكتاب المصريين والعرب سواء من كان مقيما بها أو مارا بالمدينة لحضور مؤتمر أو ندوة أو الاتفاق على نشر كتاب؛ في زمن انتعشت فيه بغداد ثقافيا وانشغلت بالعديد من المؤتمرات وفتحت أبوابها أمام النشر لمعظم الكتاب العرب.
هكذا تعرفت وأنا في العشرين من عمري على الكاتب المصري سمير ندا. دار في رأسي كل ما حملته تلك الفترة من شد وجذب وصراعات سياسية وتطلعات لاختطاف زعامة القاهرة لتنتقل إلى عاصمة أخرى تصبح قبلة العرب؛ ونتائج هذا على المثقفين المنفيين نتيجة التغيرات السياسية في المنطقة. هذه الظروف هي ما نشأ فيها الطفل محمد سمير ندا وسط بيئة تمتلئ بالأفكار المتنوعة والتوترات السياسية التي انعكست على أسرته الصغيرة وعلى حركتها ودخلها واستقرار الأبناء في مدارس مثل خلق الله؛ لهذا لم أستغرب هذه النظرة الشمولية التي حملتها الرواية سواء في رسالتها أو في بنيتها؛ فالكاتب بعد محاولتين روائيتين إحداهما سيرة الأب اختار الديكتاتورية بكل صلافتها موضوعا لروايته؛ ولأنه كان داخل مطبخ الأحداث في المنطقة إذا انتقلت أسرته بعد بغداد إلى ليبيا لتعيش داخل نمط آخر من الديكتاتورية، هكذا تنوعت الخبرات أمام عينيه و أكسبته قدرة على أن يختار انحيازا في طريق غير الطريق الذي اختاره الأب؛ وربما تكون السيرة التي كتبها قبل هذه الرواية جاءت كشكل من أشكال الخلاص لا أقول التطهر من كل ما كان يحمله من مسؤولية وحنين تجاه كل ما يمثله الأب وكل ما دفع ثمنه غاليا. العلاقة مع الأب دفعت ذهني لسؤال كبير عن العلاقة ما بين الكاتب ووالده وأنا أقرأ شخصية الطفل حكيم الأبكم وأبيه الخوجة الديكتاتور في الرواية قبل أن تصلني نهايتها.
استوقفني التناقض في عنوان الرواية: صلاة القلق. فالصلاة تضفي على الإنسان طمأنينة وراحة وسكينة في مختلف الأديان وعلى مر جميع العصور؛ على عكس القلق الذي وصفت به هذه الصلاة التي دعا إليها الشيخ أيوب رجل الدين في هذا النجع.
تطالعنا الرواية بحادث انفجار يأتي بوميض أبيض في السماء تنهال منه الحجارة على الأرض ويدفع بالقرية إلى عزلة تجمد زمن أهلها عند تلك اللحظة؛ وكأن المكان المعزول قد اختطف من الخريطة، بل من الكون ذاته حتى أن القرية لم تعد تذكر أو تتواجد على الخرائط المصرية على الإطلاق.
العزلة هنا تذكرنا بمناطق معزولة في الآداب مثل عزلة مستعمرات الجذام في رواية الفراشة لهنري شاريير أو الرواية الأشهر مئة عام من العزلة لجبرييل جارثيا ماركيز؛ عزلة صنعتها شائعة تفيد تطويق المكان بألغام تمنع الدخول إليها أو الخروج منها إلا بمعجزة يعرف طريقها قافلة صغيرة من المسؤولين تأتي إلى الخوجه الحاكم الفعلي للقرية لتكون وسيطة بينه وبين الدولة في استخلاص الأوراق و تجنيد الشباب للحرب المهيمنة على النص والتي ما زالت مستمرة منذ عام الهزيمة 1967 التي أعلن عنها باعتبارها نصرا؛ وحتى بعد مرور عشر سنوات عليها أحكمت العزلة بتوقف الراديو عن العمل وعدم وصول أي أنباء تغير من معلومات الناس فلا يستطيعون التعرف على أي شيء إلا من خلال الجريدة الوحيدة الصادرة بعنوان صوت الحرب.
تخدعنا العزلة بأن شرطها الوحيد: كتم صوت وسائل الاعلام في حين نجحت الولايات المتحدة أثناء حرب العراق في منع وصول الصحفيين إلى منطقة الصراع ونقلت الأحداث عن طريق المتحدث العسكري الأمريكي وحده؛ وقتل المراسل الفرنسي الذي حاول اختراق الحصار الإعلامي فوق دراجة بخارية وكذلك الممرضة التي خرجت من المكان ولم تصل لغيره؛ وما رأيناه فوق شاشات التليفزيون كان مجرد ومضات في السماء في ذلك الوقت تشبه ما يراه الأطفال في ألعاب الأتاري؛ وهو ما تكرر بتزييف الإعلام لصور الأطفال السوريين المقتولين في الربيع العربي أو تبرير المجازر الإسرائيلية للإبادة العرقية في فلسطين وقتل الصحفيين الذين ينقلون الأحداث ليس في فلسطين وحدها؛ فالإحصائيات تشير أننا نشهد أعلى نسبة قتل للصحفيين في تاريخ الصحافة. الحصار موجود إذن بكل صوره وتزييف الوعي هو الحصان الرابح في منظومة الديكتاتورية وتحالف السلطة مع تجار الدين.
تبدأ الرواية بمشهد كافكاوي إذ يصحو البطل على اختفاء رأسه من فوق كتفيه؛ ثم تبدأ كل حكاية من حكايات الجلسات الثمانية التي تشكل البناء الأساسي للرواية بالصحو على مشهد يحمل مصيبة ولا يكتفي الكاتب بهذه البدايات المفجعة؛ وإنما يخبرنا بعدة وسائل أن ما يأتي بعد ذلك هو مصيبة أكبر يدركها الشخص نفسه مع استيقاظه. لفتت نظري اللغة المعبرة السلسة المميزة بجزالة تجعل التدفق غاية في السهولة والجمال والبنية التي سمحت بأن تتحدث الشخصيات بنفسها عما تريد عن الأحداث التي جرت في هذه البقعة من العالم خلال العشر سنوات التي تم عزلها فيها ومحاولات بعضهم العبثية للفرار.
الرواية هنا أشبه بقلق وجودي يتصارع بين الحلم والكابوس؛ الحلم بالحرية والكابوس الذي يفرضه الواقع. درجات الحلم والسعي إلى الحرية متفاوتة ويحسب هذا للكاتب.
يبدأ الحلم عند شخصية النحال؛ لكن النحال لا يستطيع أن يجبر أهل القرية على تصديقه بعد أن دعاهم إلى رفض هذه العزلة والوقوف أمام الخوجة الذي يفرضها عليهم ؛ ومع أن النحال يبدو سكيرا لا يفيق من الخمر إلا أن الفكرة تبدأ في التسلل إلى بعض الناس للبحث عن اجابات لأسئلتهم عن الشباب الذي غاب في الحرب المستمرة منذ عشر سنوات بالخروج من هذا المكان المسيج بالألغام؛ وهذا ما فعله النجار حين بدأ في حفر نفق يمر تحت الترعة بعيدا عن سلطة دكان الخوجة وطريق الألغام وإن أخفى عمله في حفر النفق عن أهل القرية.
الحرية الحقيقية بكل تجلياتها تقدمها شواهي الغجرية الراقصة التي تمكنت من الاحتفاظ بجسدها بعيدا عن العبث به؛ وأصبحت رغم إثارتها لشهواتهم بعيدة المنال. وقدم الكاتب بهذا نموذجا تقدميًا لموقفه من المرأة فقد كانت شواهي هي النموذج الأمثل للحرية.
أتاحت بنية الرواية شبكة علاقات واسعة ومعقدة بين أفراد هذا المجتمع نجح الكاتب في أن يجعلها متينة وسلسة شابها بعض الترهل بسبب التكرار أحيانا وساعدته لغته القوية على إيصال الرسالة لكن اللغة جاءت واحدة على مستوى جميع الشخصيات وكأن شخصا واحدا هو الذي يعبر عنهم جميعا فكانت أعلى وعيا من كل الشخصيات على السواء؛ وبان البعد الفلسفي في التعبير بعمق لا يتواءم مع ثقافة ومستوى تعليم ووعي وبيئة كل شخصية وعلى سبيل المثال في صفحة 229 على لسان شواهي:
" باغتني سؤال: هل غرق النساج قبل أن تضمه الترعة في عناق أبدي؟ هل الغرق مشروط بالماء؟ أم إنه بالأساس فكرة تشترط عدم القدرة على التنفس بحرية لإعلان الغرق وانتفاء الحياة؟ إن صح ظني فقد أصبحنا جميعا في حكم الغرقى وها نحن ننتظر الطوفان ليمنحنا صك الغرق!
وفي مكان آخر من نفس الصفحة:
"أفكر فيما يجري بينما الناس يهيمون على وجوههم من نكون؟ أن نكون نحن التوسلات التي ضلت طريقها إلى الله؛ صحفا مزقتها نسائم الصحراء فطمرت حروفها بعيدا عن أعين الرب؟ لم تكن لنا عناوين ولن تكون لنا يوما؛ فنحن قوم نحيا أسفل خارطة تبسطها الحكومة أمام القادة على طاولة الحرب لا يبصروننا ولا نلمح حتى ظلالهم لكننا نختنق."
الأمر الثاني أن الشخصيات لم تعبر عن نفسها بالمصطلحات التي تعكس بيئتها وأحلامها وكوابيسها؛ فالنجار والنساج والكلاف والداية لم يعبروا ولو بالقليل عما ينشغلون به وبحكمة أمثالهم؛ بل كانت كلماتهم تعبيرا عن وعي متعلم مثقف كثير الخبرات الحياتية وفيلسوف أيضا؛ حاول الكاتب في نهاية الرواية في فصل بديع سأعود إليه في حينه ذكر فيه أن الذي يحكي هو حكيم الأبكم عن طريق الكتابة في جلسات مع طبيب نفسي في مستشفى للأمراض العصبية وأن وعيه هو الذي يقدم هذه التصورات عن الشخصيات وليس الشخصيات نفسها؛ فمن أين استقى حكيم كل هذه الخبرات وهذه اللغة التي بررها الكاتب بغياب عشر سنوات لا يعرف الطبيب سعدون زكريا عنها شيئا في تاريخ مريضه؛ فهل تكفي عشر سنوات تضاف إلى عمر الصبي الذي خرج من هذه القرية في الخامسة عشرة من عمره لكي يكتسب كل هذه الخبرات وهذا العمق في الرؤية للعالم أظن أن لا، لو ذكر الكاتب عشرين سنة كنا سنصدقه على الفور ففي الخامسة والثلاثين يكون الشخص الذي عركته الحياة بشكل ما قادر على اكتساب مثل هذه المهارات. وسعدون نفسه هو ابن المناضل الفلسطيني زكريا النساج الذي تخفي في هوية مصرية مزيفة لكنه لم ينس تاريخه النضالي.
بدا الفصل الأخير وكأنه ملحق بالرواية وهو أشبه بلمة شبكة الصياد بعد أن فردها في البحر على اتساع ثم جذبها ليحكم الإغلاق على صيده؛ وضع المؤلف صورة متخيلة لثورة انتهت بحريق في مستعمرة جزام على حدود مدينة سوهاج وكأن الكاتب اعتمد عليها كواقعة حقيقية تمثلها في روايته التي انتهت بحريق في قريته المعزولة المسروقة من التاريخ والمسورة بالألغام التي تحالفت فيها السلطة الدينية مع السلطة الحاكمة الممسكة بتلابيب الاقتصاد كله. ومع التقارير التي كتبها الطبيب نقرأ أن الوقائع التي سبق وقرأناها هي خليط من الحقيقة والخيال في ذهن الشاب الأبكم حكيم الذي رأى الحقيقة بأم عينيه وأصابه الخرس من هولها أو تم اسكاته رغم أنه ابن السلطة التي ستضحي به لو وقف في طريق يفضح لعبتها كما تخيل حكيم المريض. وأن الرواية تدين الناس بنفس الدرجة التي تدين بها السلطة فحياة كل منهم تنطوي على إثم يخفيه فتفضحه يد تكتب له جرمه فوق حائط داره ويظل معلقا لا يستطيع قراءته سوى الشباب الواعي الذي تعلم القراءة دونا عن معظم أهل القرية.
تحليل المضمون في هذه الرواية هو ما يصدم القارئ ويجعله في حيرة؛ لأن الكاتب خرج من بيت ناصري ويكتب رواية يهاجم فيها ديكتاتورية الزعيم والحزب الواحد والإعلام الواحد والحكومة الواحدة ويلصق بها كل ما حدث من خراب في واقع هذه القرية؛ وقد أحسن المؤلف إذ جعل تمثال الزعيم ليس تمثالا لجمال عبد الناصر، بل جعله لا يشبهه على الإطلاق في إشارة ذكرتني بنهاية رواية خريف البطريرك لجبرييل جارثيا ماركيز حين وقف البطريرك أمام المرآة فظهر أمامه أربعة عشرة جنرالا مختلفا وكأن تعاقب هؤلاء الجنرالات لا يفرق في شيء. اعتمدت الرواية على كثير من الرموز التي يمكن أن تفسر بعدة تأويلات وهي إحدى خصائص روايات ما بعد الحداثة التي تعني باختلاف التأويلات والنتائج غير المتوقعة.
عمل جديد لكاتب واسع الاطلاع يمتلك لغة جزلة ووجهة نظر تحترم لمراجعة التاريخ وإعادة كتابته بوجهة نظر مغايرة تفتح الآفاق لرؤية جديدة وإن اختلفنا معها ؛ مبروك للكاتب محمد سمير ندا على هذا العمل الجميل وعلى الجائزة.
------------------------------------
بقلم: هالة البدري