كانت أهم الدروس التي تعلمتها أثناء خدمتي بقوات الصاعقة أنه يجب ألا تمعن في مواصلة طريق معانداً إذا أدركت أنه طال بأكثر مما ينبغي ، فعليك التوقف علي الفور وإعادة قراءة الخريطة ومراجعة البوصلة ، لأنه من المؤكد أنك ضللت الطريق .
وقد يكلفك ذلك حياتك وحياة جنودك خاصة خلف خطوط العدو ..
لقد كان اللواء كولين باول العائد من فييتنام عام 1975 بعد ستة أعوام من الخدمة في الميدان مذهولاً من إنقلاب الرأي العام الأمريكي علي المؤسسة العسكرية التي قدمت الآلاف من القتلي والجرحي ، لكنه عندما قرأ كتاب الإستراتيجي الألماني الشهير كلاوزفيتز وجد الإجابة ، وقال أن الدرس الأكبر له هو أن الجندي بكل ما يحمله من وطنية وشجاعة وموهبة بجب أن يعرف أنه يمثل فقط رجل واحدة من بين ثلاثة أرجل وهي " القوات المسلحة " و "الشعب " و " الحكومة " ، وإذا تخلفت رجل منها فإن المهمة لا يمكن أن تنجح..
إن ذلك " الثالوث المقدس" هو جوهر التوازن الذهبي في أوقات المحن والحروب ، القوات المسلحة وحدها لا تكفي في المواجهة ، بل يجب أن يتواكب معها ويتعاضد ويتساند موقف شعبي فاهم وداعم ، وحكومة تدرك أبعاد اللحظة التاريخية بكل تعقيداتها من اقتصاد وسياسة وثقافة واحتياجات تعبوية ..
لقد كتب كلاوزفتز قبل ما يزيد علي مائة وخمسين عاماً ( أنه لا ينبغي لأحد أن يتورط في حرب ، أو علي الأقل أي عاقل ، دون أن يحدد في البداية " ماذا ؟ " يريد أن يحققه من تلك الحرب ، و " كيف ؟ " ينوي أن يديرها ) ...
ومن الواضح أن أي خطأ في الإجابة علي السؤال الأول ( لماذا ) سوف يؤدي إلي خطايا في الإجابة علي السؤال الثاني ( كيف ) ...
وتتعقد المشكلة عندما يتم الخلط في الأوراق ، ولذلك يجب دائماً الحذر من تداخل المهام أو اختلاطها بشكل يؤثر علي طبيعة المهمة نفسها أو نتائجها ، ولذلك نجد مثلاً أنه في يونيو 2010 قام الرئيس الأمريكي أوباما بإعفاء الجنرال ستانلي ماكريستال من منصبه كقائد للقوات الأمريكية في أفغانستان بسبب تصريحات سياسية صدرت عن ذلك الجنرال وأعتبرها أوباما خروجا عن التقاليد الدستورية الأمريكية التي تخضع العسكريين لسلطة الحكم المدني .
لقد صرح الجنرال بأن المهمة في أفغانستان مهددة بالفشل إذا لم يتم ضخ قوات أمريكية إضافية ، وبعد ذلك بقليل صرح وزير الدفاع الأمريكي روبرت جيتس بأنه من واجب الجميع أن يقدموا النصح للرئيس بكل إخلاص ولكن بشكل سري .
وقد رأي بعض المعلقين آنذاك ، أن خروج الجنرال علي النص لم يكن إلا أحد الآثار السلبية لتزايد الدور العسكري لأمريكا في حرب العراق وأفغانستان ، وأن " مرض "سيطرة العسكريين" علي الحياة المدنية يتسلل من شعورهم المبالغ فيه بأن مصير الأمة بين أصابع أيديهم ، وذلك خطر كبير علي الحياة الديمقراطية لأمريكا ، بل وعلي العالم كله ..
إلا أن تلك لم تكن الحادثة الأولي أو الأشهر في التاريخ الأمريكي ، فقد قام الرئيس هاري ترومان بعزل الجنرال دوجلاس ماكرثر من قيادة القوات الأمريكية في كوريا عام 1951 بعد أن كرر الجنرال إنتقاداته العلنية ضد أسلوب الرئيس في إدارة الحرب .
ومن المعروف أن السيطرة علي الجيش وفقاً للدستور الأمريكي تتم عن طريق السلطة التنفيذية من جانب ، والسلطة التشريعية من جانب آخر ، حتي يمكن الحد من إحتمالات تهور بعض القيادات أو خروجها علي القواعد الضابطة لعملها ، إلا أنه عندما تطول فترات الحروب مثل الوضع في الحرب الفيتنامية أو العراق وأفغانستان ، فأن بقاء عدد كبير من ضباط القيادات الصغري والمتوسطة في ميادين القتال يؤدي إلي أضرار فادحة؛ منها مثلاً انقطاع الصلة الإحترافية ما بين تلك القيادات والسلطات المدنية ، بل وتزايد شعور القيادات العسكرية بإحتقار السلطات المدنية خاصة عند حالات الفشل في تنفيذ المهام العسكرية ..
وأثناء خدمتي في نيويورك في بداية التسعينات ( ومع بدايات أزمة غزو العراق للكويت ) ثارت مشكلة كبيرة حول مواقف بعض قيادات الجيش الأمريكي المتقاعدين الذين كانوا يطلون بوجوههم من مختلف شاشات التليفزيون ( وخاصة سي إن إن ) كي يرسموا الإستراتيجيات وخطط الحرب مباشرة علي الهواء أمام المشاهدين ، فقد رأي البعض أن ذلك يؤثر سلبياً علي عمل القوات المسلحة وقد يكشف خططها ، بينما رأي البعض الآخر أنهم يمارسون خداعاً متفقا عليه مع القيادة الأمريكية ( وربما صح ذلك مع بعضهم بالفعل حيث كانوا يصورون الهجوم لتحرير الكويت علي أساس عملية إنزال بحري كبيرة من مياه الخليج ).
ويبقي أن البعض الثالث رأي في أن هؤلاء "الخبراء " العسكريين من المتقاعدين لا يعرفون شيئاً ولا يفهمون شيئاً ، وإنما يسعون لتحسين أحوالهم المادية من خلال التعاقد مع بعض المحطات التلفزيونية أو أنهم في أفضل الأحوال يبحثون عن الشهرة ، وقد قال لي جنرال أمريكي متقاعد كان يقضي شهر عسل متأخر مع زوجته في شلالات نياجرا ، أنه لو كان هؤلاء الجنرالات سعداء في حياتهم العائلية لما ضيعوا وقتهم في أستديوهات التلفزيونات !! ..
وفي مارس 2006 أصدر 6 من الجنرالات الأمريكيين السابقين بياناً يطالبون فيه بإقالة وزير الدفاع رامسفيلد ، وقد سبب ذلك البيان صدمة لمؤسسات الحكم في أمريكا ، ثم توالت المشاكل عندما تم الكشف في عام 2008 عن أن "الخبراء العسكريين " المتقاعدين الذين يظهرون علي شاشات التليفزيون يتم تلقينهم بما يقولونه عن طريق وزارة الدفاع الأمريكية ، بل وتبين أن لبعضهم علاقات مالية مع بعض الشركات التي يتعاقد معها الجيش .
ولا شك أن تصريحات بعض العسكريين السابقين تكتسب أهمية خاصة بقدر إقتراب هؤلاء من دوائر صنع القرار ، بل ومن الملاحظ أن بعضهم يتعمد التلميح بتلك العلاقة الخاصة ويتحدثون عن ما يمكن إعتباره أسراراً للدولة ..
وخطورة ذلك التوجه لا تخفي علي أحد ، وربما ينبغي علي الرئاسة أو قيادة القوات المسلحة أن تمنع استفحال هذه الظاهرة أو التقليل من آثارها السلبية ، فمن المؤكد أن بعض ما يصدر عن هؤلاء الخبراء يتميز أحياناً بالغرور والثقة الزائدة بالنفس والإدعاء بالعلم ببواطن الأمور ..
درس الصاعقة القديم لا يزال أمامي : " لا تعاند ، لا تواصل السير في طريق طال بأكثر مما ينبغي ..توقف.. افرد خريطتك، راجع البوصلة ..فلا بد أنك ضللت الطريق" ..
------------------------------------
بقلم السفير / معصوم مرزوق
- مساعد وزير الخارجية الأسبق