في مساء الثامن من يونيو عام 1992، اغتالت رصاصات غادرة فرج فودة، أحد فرسان معركة التنوير في مصر على أيدي متطرفين إسلاميين مدعومين بفكر تكفيري تتبناه جماعات سياسية تنطلق من مرجعية دينية وتيار متشدد، له ارتباطات بالأزهر الشريف، أكبر مؤسسة فقهية في العالم الإسلامي. لم يكن فرج فودة هو التنويري الوحيد الذي يلقى حتفه على أيدي متطرفين إسلاميين في العالم العربي، فقد اغتالت هذه الجماعات المثقف التونسي شكري بلعيد في 6 فبراير عام 2013، في اليوم التالي لمداخلة تلفزيونية على قناة تلفزيونية خاصة اتهم فيها حزب النهضة التونسي، الذي يتزعمه راشد الغنوشي، بالتشريع للاغتيال السياسي من خلال نشاط روابط حماية الثورة، كما تم اغتيال الكثير من المثقفين العرب المستنيرين، علمانيين وغير علمانيين، في تصاعد موجة التشدد الديني المدعوم غالبا تيارات إسلامية رئيسية يعلن بعضها نبذه للعنف في الجزائر أو السودان وغيرها من الدول.
ويسلط اغتيال فرج فودة الضوء على فرضية أن خصوم التنوير في مصر، وفي بعض البلدان العربية والإسلامية، قد يلجأون إلى العنف والتصفية الجسدية، خصوصاً إذا ما استشعروا أن الشخص المستهدف يمتلك خطاباً قادرا على الوصول إلى قطاعات عريضة من الجمهور، وأن الشركاء في هذه الجريمة ينتمون إلى تيار أوسع من الجماعات التي تنتهج العنف سبيلاً لتحقيق أهدافها. فقد أفتت رموز في هذا التيار الأوسع بوجوب إعدام فرج فودة، وسارع بعضهم إلى مباركة وتأييد هذه الجريمة الغادرة وفي شهادات موثقة أمام المحكمة. وقد عبر أحد كبار منظري هذا التيار، الذي كان يُروَّج له على أنه شخصية معتدلة، أن الهدف من اغتيال فرج فودة هو ترهيب أي مثقف ينادي بالعلمانية والتنوير والحرية والديمقراطية والانفتاح، وترويع من يجرؤ من المثقفين والباحثين على نقد التراث، لاسيما التراث الذي يمجد العنف وقتل المخالفين، لفرض تصوراتهم المتشددة للدين كي تسهل عليهم السيطرة على الجموع الغفيرة وتوجيهها كيفما شاءوا وكي تخضع لهم كل التيارات السياسية. ومن المؤسف حقاً أن هذا التيار قد يتسع ليضم رموزاً تنتمي إلى التيارات اليسارية والقومية، والتي تحالفت سياسياً مع جماعة "الإخوان المسلمين" في العقدين الآخرين من حكم الرئيس حسني مبارك ومع الجماعة ومرشحها في انتخابات 2012 ضد الفريق أحمد شفيق الذي أحرق بعض نشطائهم مقاره الانتخابية في أعقاب الجولة الأولى للانتخابات.
في عام 2021، كتبت مقالاً في ذكرى اغتيال فرج فودة لفضح موقف تلك الرموز اليسارية والقومية وكشفها وإدانتها، وذكرت بموقف كثير من النشطاء اليساريين والقوميين الذين كانوا يهتفون لخالد الإسلامبولي قاتل الرئيس أنور السادات، لاتفاقهم مع المنتمين للتيارات التكفيرية المتشددة في تخوين السادات والحكم بضرورة اغتياله. وذكرت بأن بعض هؤلاء كانوا من المعجبين والمروجين لسيطرة الملالي على السلطة في إيران والمصفقين للنظام الأصولي القمعي وهو يقتل زعماء التيارات التي فجرت الثورة في إيران قبل إرسال الخميني من باريس مشحونا في طائرة، بمباركة قوى الاستكبار، للانقلاب على الثورة. إنهم يبتلعون ألسنتهم طالما أن الخطاب المعادي لإسرائيل عاليا، على نحو يذكرني بذلك الشاب في فيلم (التقرير) لدريد لحام، الذي قتل مواطنا بسياراته لتجاوزه السرعة ثم تحول في قاعة المحكمة إلى بطل عندما وسوس له المحامي بأن يقول للقضاة إنه كان مسرعا لأنه كان في طريقه لتفجير نفسه في جنود إسرائيليين في جنوب لبنان.
لم يجر اغتيال فرج فودة بسبب مجاهرته بالعَلمانية، كما يروج خصومه، وإنما لأنه كان من الشخصيات القادرة على نقل معركة التنوير ورسالته للجمهور العام، ولجرأته وشجاعته في التفكير وإعمال العقل في قضايا شائكة، ومن المؤسف أن من بين هؤلاء خصوم والمعارضين له من ينتمون إلى تيارات سياسية من المفترض أن تكون مناصرة للتنوير والعلمانية والمستقبل وان يكون موقعها على النقيض من الأحزاب الدينية على الخريطة السياسية والحزبية. وكان اعتراضهم على فرج فودة يستند إلى ثلاثة أسباب رئيسية تقف في لب التنوير ومعركته، هي: خروجه على القبيلة، والوجهة الجماهيرية والمستقبلية لخطابه، وأخيراً تأكيده على السلام كنقيض للعنف. قد يكون الاحتفال بمرور 33 عاماً على استشهاد فرج فودة مناسبة لتحديد التناقض الرئيسي في الصراع من أجل مستقبل مصر ورسالتها، بين التنويريين وخصومهم، واعتقد أن إعادة قراءة فرج فودة والمراجعة الجادة لأفكاره وإعادة تقديمها وتطويرها خطوة على الطريق في معركتنا من أجل التنوير، وتتجدد في ذكرى استشهاده كل عام الدعوة لإصدار كتاب بشارك فيه عدد من رموز التنوير عن مشروعه الفكري ورؤيته المستقبلية. فهذا دين له لا بد أن نوفيه وفي هذا التزام تجاه أجيال المستقبل.
التنوير وانعتاق الإنسان وتحرره
الهدف من التنوير باعتباره عملية مستمرة للتفكير النقدي والحر في القضايا الشائكة والحساسة في المجتمع، هو تحرير الإنسان من أسر الأفكار الموروثة التي تعوق تقدم المجتمع ومواكبته للعصر. قد يخطئ من يتصور أن هذه الأفكار الموروثة تقتصر على الأفكار المرتبطة بالدين فقط، أو أن الإيمان يقف بالضرورة ضد حرية التفكير. لقد كان الفقهاء في العقود الأولى بعد الرسالة وتأسيس الدولة يمارسون التفكير النقدي ويحاولون التوفيق بين مقتضيات الشريعة والواقع المتغير فيخرجون الأحكام وفق الضوابط الشرعية في عمل مشابه لعمل المشرعين في العصور الحديثة. ولم يجدوا حرجاً في اختلافهم، بل رأى كثير من الناس في اختلافهم رحمة بالعباد، وانقسموا بين مجتهدين غايتهم تيسير الحياة على الناس، وينطلقون من فكرة روح النص ومقاصده، وينشغلون بالمبادئ الكلية، فيتوسعون في تفسيره، وبين متشددين يرون ضرورة التقيد بالنص وفهمه فهما حرفياً وضيقاً ولا يفكرون كثيراً في الغاية منه أو مقاصده، ولا يهتمون بالمبادئ الكلية وإنما ينشغلون بالحوادث الجزئية والتفاصيل. ومع غلق باب الاجتهاد برز انقسام آخر بين فريق مجدد ينظر نظرية نقدية للتراث، وينقيه مما يتعارض مع جوهر الدين ومقتضيات العقل، وبين فريق آخر يرفض التجديد باعتباره بدعة وينطلقون من فكرة أن ما وضعه السلف من الفقهاء ملزم ويحظى بقدسية تعادل قدسية الدين ذاته ووظفوا لهذا الغرض الكثير من الأحاديث دون إعمال العقل والتفكير فيها لتبيان مدى معقوليتها، وروجوا لفكرة أن ممارستنا للتفكير قد توقعنا في الشرك والكفر.
لم يتجرأ الدكتور فرج فودة فحسب على نقد بعض ما ورد في التراث الديني، خصوصا ما يتعارض في هذا التراث مع العقل بشكل صارخ، وإنما خرج أيضاً على قبيلة المثقفين واليسار في نهاية السبعينات ومطلع الثمانينات، وانتمى إلى حزب الوفد الذي عاد إلى الحياة السياسية بحكم محكمة، متحدياً كل ماكينة الدعاية الناصرية ضده وضد كل التجربة السياسية التي صادرها الضباط لصالح حكم الحزب الواحد بشعارات اشتراكية مُعدَّلة تحت مسمى الاشتراكية العربية لتتوافق مع الفكر التقليدي والموروث. والمفارقة أن الشيوعيين الذين لم يسلموا من بطش النظام الناصري، خضعوا في النهاية واستسلموا لشعاراته الزائفة في المسألة الوطنية. ولعب أيضا الخطاب المأزوم بفعل هزيمة يونيو 1967 التي سميت نكسة للتخفيف من وطأتها، دورا في تزييف وعي تيارات الشيوعيين لاسيما في الحلقة الوسطى في السبعينات وباتوا أشد عداء لحزب الوفد وللتجربة السياسية في مصر قبل 1952، وصدقوا كثيرا من المقولات الدعائية المضادة. فكيف يختار فرج فودة أن يعمل من خلال حزب الوفد، وكيف يقبل أن يكون مرشحه في الانتخابات البرلمانية. الغريب أن هؤلاء لم يساندوا فودة في معركته مع حزب الوفد بعد دخوله في تحالف انتخابي مع جماعة الإخوان المسلمين في انتخابات عام 1984، ولم يتراجع عن موقفه المبدئي رغم انفضاض التحالف التكتيكي بين الوفد وجماعة الإخوان بعد أشهر من الانتخابات وواصل معركته باستقلالية في السنوات اللاحقة. كان الخصم واضحا بالنسبة لفودة وهو ممثل في جماعات تتستر وراء الدين وكان موقفه واضحا من مسألة خلط الدين بالسياسة وكان بحق يسبح ضد التيار سواء في عصر السادات أو في عصر مبارك من بعده.
لقد كان فرج فودة بمواقفه هذه يمارس التنوير الذي يعني التفكير في الشأن العام باستقلالية دون وصاية أو توجيه من الآخرين، سواء كان هؤلاء الآخرين من رجال الدين أو من الزعماء السياسيين، وأثبت أن الغاية الأساسية للتنوير هو تحرر الإنسان وانعتاقه من أسر الأفكار الموروثة أو التي يجمع عليها المثقفون. إن هذا المنحى التحرري في فكرة التنوير لا يؤرق رجال السلطة السياسية أو الدينية فقط، وإنما يؤرق أيضاً الأوصياء على التيارات السياسية المختلفة الذي يمارسون رقابة على الفكر بدعوى الالتزام الوطني أو الالتزام الحزبي، ويكشف عن جانب من جوانب أزمة التنوير والثقافة في مصر، يتمثل في علاقتها بالسياسة، ولعل هذه العلاقة المأزومة سبب رئيسي في عدم قدرة المثقفين على نقل معركة التنوير إلى الشارع بدعوى المواءمة السياسية التي يطرحها قادة الأحزاب السياسية في مصر. وتنقلنا هذه الفكرة إلى الدور الذي لعبه حزب الوفد تاريخياً في معركة التنوير، وترجمة بعض المواقف الفكرية لرموز حزب الأحرار الدستوريين إلى معارك سياسية وفكرية، لكن الحزب وقياداته تراجعوا أيضاً في بعض المعارك الفكرية لتقديرهم عدم المواءمة السياسية، مثل موقفهم من الدكتور طه حسين وكتاب الشعر الجاهلي، الذي أحدث ضجة كبيرة.
مرة أخرى تقف الحدود المفروضة على المثقفين وعلى حرية التفكير، والتفكير النقدي بشكل خاص عقبة كؤود في طريق مسيرة التنوير في مصر، ولا يمكن تحقيق تقدم في هذا المشروع دون وصل ما انقطع من صلة بين السياسة والثقافة وتطوير للفكر السياسي، وهذه مهمة تقع على عاتق المثقفين بالأساس.
سؤال المستقبل
لم يكن فرج فودة منشغلا كثيرا بالقبائل السياسية والثقافية المسيطرة على الساحة في مصر، وإنما كان منشغلا بقضية مصر الأكبر ومعركتها مع الاستبداد الديني، الذي اعتبره أشد خطرا على المستقبل من استبداد السلطة الحاكمة، وكان يبدي قلقه من المساحة المتعاظمة التي يشغلها التيار الأصولي في المجال العام في السياسة والاقتصاد من خلال شركات توظيف الأموال، وأصدر كتاب "الملعوب" لفضح أساليبهم في الاستيلاء على مدخرات المصريين وسرقتها. كان همه الأساسي هو تحرير المستقبل من قبضة الماضي الموروث ووضع خطوط فاصلة بين التيارات والقوى المختلفة وبين تيارات ما بات يعرف اصطلاحا بـ "الإسلام السياسي". وسعى لتأسيس حزب سياسي، ولم يكن غريبا أن يختار له "المستقبل" اسما وعنوانا. كان يدرك أن مستقبل مصر مرهون بالصراع بين قوى تسعى لشدها للماضي وفصلها عن هويتها ومصادرة مستقبلها، وبين تيارات تؤمن بأن الحرية والعقل والعلم هم الطريق إلى المستقبل وكانت هذه هي الرسالة التي سعى لنقلها للأجيال الشابة، والرسالة وصلت رغم اغتياله، كما يتضح من تنامي عدد الشباب في مصر وخارجها، الذين التفتوا لفرج فودة وكتاباته، خصوصاً بعد انتفاضات 2011، وهو اهتمام لم تبذل الرموز التنويرية جهدا كافياً للتجاوب معه ورعايته وتطويره، ومأسسة جهودهم بما يضمن استمراريتها من بعدهم، وبما يوفر لها آليات جديدة للحركة والتواصل الاجتماعي والجماهيري الواسع.
انشغل فودة بكشف حقيقة الماضي الذي يصوره الرجعيون من الإسلاميين وغيرهم بأنه عصر ذهبي، وسعى إلى فضح هذا الماضي والكشف عن مدى تهافت ما يدعون إليه من "ردة" تحت مسمى "الصحوة". وكان ينبه لخطورة تديين الصراع مع إسرائيل، وينبه إلى وجود بدائل واختيارات أخرى لإدارة المعركة معها. كان يدرك أن الصراع مع إسرائيل هو صراع حضاري من أجل المستقبل والتقدم؛ وأن العلم والمعرفة هما أمضى الأسلحة للنصر في هذه المعركة. وكان يرى وبحق، أن التناقض الرئيسي هو بين قوى المستقبل والعلم والمعرفة وبين قوى الرجعية التي تُروج للخرافة وتُغيب العقل. وكان هذا واضحا في كل كتاباته. كان تنويريا وعندما أراد خصومه تشويهه وقتله معنويا بنعته بالعلمانية لم يرفض ولم يرتجف ولم يخش أن ينخرط في الدفاع عن فكرة نالها ما نالها من التشويه والإدانة في أعين الناس. هنا أدركت قوى الرجعية خطورته وقدرته على تبديد الحملات الممنهجة التي تشنها ضد العلمانية وغيرها من قيم ومفاهيم حداثية على مدى عقود، فقرروا التخلص منه واغتياله. كان فودة مدافعا شجاعا عن نهج السلام، ولم ترهبه مقولة "التطبيع" التي كثيرا ما ترفعها الدولة والتيارات الرجعية والقومية واليسار والبعث لترهيب أنصار السلام والمدافعين عنه كهدف لإنهاء الصراع والانشغال ببناء المستقبل. ولم يخف فودة من قبائل المثقفين اليساريين والقوميين، وواصل معركته والدفاع عن موقفه وأفكاره، ولم يأبه لسعيهم إلى فرض عزلة عليه وشن حرب غير معلنة ضده وضد أفكاره.
سيأتي يوم تدرك فيه الأجيال اللاحقة، على اختلاف توجهاتها، بما في ذلك المنتمون إلى اليسار مدى الجريمة التي ارتكبها هذا التيار في حق فودة وفي حق مستقبل الوطن، وإلى أن يأتي هذا اليوم يتعين وضع فرج فودة ومشروعه ومعاركه والثمن الذي دفعه في سياق معركة التنوير الأوسع.
---------------------------------------
بقلم: أشرف راضي