- قافلة الصمود المغاربية.. توقيت مدروس في محاولة لإحراج مصر وسط معركة غزة المستمرة
في ظل تصاعد التحركات الشعبية والدبلوماسية لدعم غزة، أصدرت وزارة الخارجية المصرية بيانًا واضحًا ومباشرًا يحدد ما أسمته "الضوابط التنظيمية لزيارة المنطقة الحدودية المحاذية لقطاع غزة".
البيان، وإن جاء بلغة دبلوماسية ترحب بالمواقف الدولية والإقليمية الداعمة للشعب الفلسطيني، إلا أنه في جوهره يضع خطوطًا حمراء واضحة أمام أي تحركات شعبية أو غير رسمية قد تستهدف الضغط على مصر أو تجاوز ترتيباتها الأمنية.
شدد البيان أن أي زيارات لمدينتي العريش أو رفح لا يمكن أن تتم إلا عبر موافقات مسبقة تصدر حصراً من خلال القنوات الدبلوماسية الرسمية (السفارات المصرية أو السفارات الأجنبية بالقاهرة والمنظمات المعترف بها)، محذرًا من أن السلطات المصرية "لن تنظر في أي طلبات خارج هذا الإطار".
بذلك، يكون البيان قد وجه رسالة واضحة لقافلة الصمود المغاربية وغيرها من التحركات المماثلة: المواقف السياسية والتضامنية محل ترحيب من حيث المبدأ، لكن على الأرض السيادة والأمن القومي المصري لهما الأولوية المطلقة، خصوصًا في منطقة شديدة الحساسية عسكريًا وأمنيًا منذ اندلاع الحرب في أكتوبر ٢٠٢٣، كما جدّد البيان تمسك القاهرة بموقفها الداعم للحقوق الفلسطينية.
وكانت قافلة "الصمود المغاربية" انطلقت في 9 من يونيو الجاري من تونس، والتي اعتبرها البعض ليست مبادرة تضامنية بحتة، بل جزءًا من خطة مدروسة من دول المغرب العربي، وربما إسرائيل، لاستهداف مصر سياسياً ودبلوماسياً وإرهاق موقعها كوسيط رئيسي في ملف غزة.
الغريب أن الدول التي خرجت منها القافلة (تونس، الجزائر، المغرب، موريتانيا، ليبيا)، غابت عن حضور القمة العربية الأخيرة في بغداد بشكل لافت، والتي كانت فرصة لإظهار موقف عربي موحد تجاه الأزمة الفلسطينية، واختلاق الغياب من قبل هذه الدول يؤكد سعيها للضغط على القاهرة إعلامياً ودبلوماسياً من خلال تلك القافلة المزعومة.
تحاول دول مثل تونس والجزائر والمغرب وموريتانيا وليبيا، من خلال هذه القافلة، رفع رصيدها السياسي في القضية الفلسطينية، والظهور شعبيًا بمظهر القادة الحقيقيين للدفاع عن غزة، ووفق تحليلات أمنية، فإن معلومات لوجستية قُدمت للقافلة لضمان وصولها إلى الحدود المصرية في موعد دقيق، ما يعزز فرضية التواطؤ الاستخباراتي لإحراج القاهرة.
في الوقت نفسه، استُخدم الإعلام المغاربي كل الأسلحة في تصوير مصر كعائق أمام فتح معبر رفح، مع تقارير متكررة عن "تباطؤ" القاهرة في إدخال المساعدات.
الجدير بالذكر أن القافلة لم تحصل على أي تصريحات لدخول الأراضي المصرية، ولم يسبق لها التنسيق مع الجانب المصري، متجاهلة حق مصر في تأمين حدودها وأنها دولة ذات سيادة لها حق وضع شروط وإجراءات تفرضها سياسة الأمن المصري.
القاهرة في قلب العاصفة منذ اليوم الأول
منذ اندلاع العدوان الإسرائيلي في 7 أكتوبر 2023، وجدت مصر نفسها على خط المواجهة السياسية والأمنية والدبلوماسية، فتصدَّرت جهود الوساطة بين حماس وإسرائيل، بدءًا من تفاهمات الهُدن الإنسانية، مرورًا بتنسيق صفقات الأسرى، وحتى مفاوضات وقف إطلاق النار.
وظلت القاهرة تمسك بمفتاح معبر رفح بشكل حساس، متوازنة بين ضغوط المجتمع الدولي، واعتبارات الأمن القومي المصري، وتوتر علاقاتها مع كل من إسرائيل وحماس، واستمرت في المشاركة في ترتيبات دقيقة لضمان مرور المساعدات الإنسانية عبر معبر رفح ضمن آلية رقابة مشددة، وسط اتهامات غربية بأن المساعدات لا تصل بالسرعة الكافية، وهو ما نفته القاهرة مرارًا.
مصر ضحية المناورة
ورغم الدور المحوري الذي قامت به مصر وحدها تجاه الأزمة الفلسطينية وتجاه القضية، تعرضت القيادة المصرية لانتقادات من بعض القوى الشعبية والإعلامية العربية التي ترى أن القاهرة كان بوسعها فعل المزيد لكسر الحصار أو ممارسة ضغوط حاسمة على إسرائيل، كما اُتهمت بالتعنت الأمني، رغم أن فتح المعبر دون ضمانات أمنية يمكن أن يضر بالأمن القومي للبلاد، في الوقت الذي غفلت فيه وسائل الإعلام العالمية والعربية متعمِّدة، دور مصر في إنقاذ الأرواح عبر اتفاقات تبادل الأسرى والهُدن الإنسانية وفتح المستشفيات المصرية للكثير من أهل غزة.
تجربة مادلين: فشل بحري يسبق الحملة البرية
قبل أيام فقط من انطلاق قافلة الصمود المغاربية، حاولت سفينة التضامن الأوروبية «مادلين» كسر الحصار البحري على غزة ضمن جهود أسطول الحرية، وانطلقت السفينة من تركيا وعلى متنها ناشطون من أكثر من 30 دولة، في محاولة رمزية جديدة للوصول إلى ميناء غزة مباشرةً عبر البحر المتوسط.
لكن السفينة لم تتمكن من الاقتراب كثيرًا من شواطئ غزة بعدما اعترضتها البحرية الإسرائيلية في المياه الدولية وأجبرتها على التراجع تحت طائلة القوة. وبرغم الأهداف الإنسانية المعلنة، لم تنجح «مادلين» في اختراق الطوق البحري الإسرائيلي المشدد حول القطاع، ما يعكس صعوبة أي محاولة لاختراق الحصار من خارج إطار التفاهمات الإقليمية والدولية المعقدة.
فشل "مادلين" عزز قناعة منظمي قافلة الصمود البرية بأن الضغط الرمزي عبر معبر رفح قد يكون أقل مخاطرة عسكريًا وأعلى من حيث الكلفة السياسية على الأطراف المعنية، وفي مقدمتهم مصر.
التوقيت ليس بريئًا
جاءت القافلة عقب سلسلة من التعثرات في مفاوضات وقف إطلاق النار التي ترعاها مصر، وهو ما يخلق مناخًا مناسبًا للتشكيك في جدوى الجهود المصرية، وتزامن توقيت القافلة مع اقتراب موعد قمة سلام مرتقبة ترعاها واشنطن لبحث الترتيبات النهائية في غزة بعد الحرب، والتي تحاول مصر حجز موقع مركزي فيها.
قافلة "الصمود المغاربية" تتجاوز كونها حركة شعبية رمزية؛ هي ساحة معركة سياسية تستهدف تقويض دور مصر ومحاصرتها إعلامياً ودبلوماسياً، مما سيمنح خصوم القاهرة مادة إعلامية خصبة لمهاجمة الدور المصري في الأزمة وتصويره كطرف متواطئ مع الحصار الإسرائيلي.
بعد عشرين شهرًا من بدء العدوان الإسرائيلي على غزة، وقفت مصر وحدها منددة بالعدوان ومطالبة المجتمع الدولي والعربي الوقوف أمام الانتهاكات الصارخة من الجانب الإسرائيلي، رافضة تهجير أهل غزة من أرضهم وتصفية القضية الفلسطينية، حتى وإن كان ذلك على حساب مصالح مصر ومواجهة حروبها الاقتصادية والسياسية، والتاريخ أثبت أن مواقف مصر لا يُزايد عليها.