منذ سنوات معدودات تجولت في شوارع مدينة ساحلية – طالما عشقتها - تقع في شمال شرق الدلتا وتعد من المنتجعات أو المصايف العريقة فهي في الأصل جزيرة تحيط بها المياه من جميع الاتجاهات. تجولت في جنوب المدينة في المنطقة الواقعة على شاطئ النيل مباشرة في مقابل بلدة الصيادين الشهيرة. كانت هذه المنطقة بؤرة عشوائية من عشش الصفيح والبوص حيث انتشرت المخدرات وعصابات اللصوص الذين كانوا يسطون على الفلل والمنازل المجاورة خاصة في فصل الشتاء ويسرقون كل ما تطاله أيديهم لدرجة أنهم وغيرهم قد سرقوا ٤ أعمدة حديدية بها مصابيح كهربائية كنت قد وضعتها في حديقة منزلي وسرقوا سور الحديقة الحديدي ومظلات الشرفات في الطابق الاول وسرقوا أغطية البالوعات الحديدية كما أنهم سرقوا معظم أعمدة الكهرباء العامة التي كانت تزين الممشى الرائع الممتد على طول أهم شارع في المدينة الذي يعد مدخلها الرئيسي.
منذ عدة سنوات قامت القطاعات الهندسية التابعة للقوات المسلحة بإزالة هذه البؤر العشوائية وبناء مكانها مجموعة من العمارات والبنايات الفاخرة المطلة مباشرة على نهر النيل. عندما كنت أتجول هناك فور انتهاء المشروع وجدت حدائق واستراحات ومظلات وأماكن للعب الأطفال وأشجار ونخيل ونباتات مختلفة الخ. حينئذ شعرت بأنني في كومباوند متميز في أحد الأحياء الراقية فالشوارع نظيفة ومرصوفة بطريقة جميلة ومضاءة بأعمدة كهربائية رقيقة المنظر والمباني مزينة من الخارج بالرخام والحجر الفرعوني وحاويات القمامة البلاستيكية الكبيرة في كل مكان.
منذ فترة وجيزة جداً كنت في زيارة صيفية قصيرة لنفس المدينة وتجولت في ذات المنطقة ووجدت الآتي: أولاً استقبلتني مجموعة متنوعة الأعراق ومتعددة الأنساب من الكلاب الضالة التي ظلت تنبح وتقترب مني رويداً رويدا حتى تدخل أحد المارة وأبعدها. (عموما ليس لدي مشكلة مع السادة الكلاب فربما كانوا يحرسون المنطقة وهذا حقهم). ثانيا اختفت جميع حاويات جمع القمامة من الشوارع وسمعت لاحقا أنها سرقت من قبل لصوص وبعض السكان الشرفاء. لاحظت كذلك أن الحدائق قد تحولت إلى مقالب للقمامة وتم سرقة المصابيح من معظم أعمدة الكهرباء وتم نزع غالبية قطع الأخشاب من مقاعد الاستراحات في الحدائق وشاهدت سيدة تطل برأسها كالأفعى من نافذة أحد المباني ثم تلقي كيساً ضخماً من القمامة من الطابق الثالث مباشرة في الشارع ورأيت حشوداً من القطط والفئران السمينة تأكل جنباً إلى جنب من أكياس القمامة المنفجرة والمنتشرة في كل مكان وكانت هذه الحيوانات تتصرف بطريقة محترمة وتقف بجوار بعضها البعض في هدوء وفي حالة نادرة من التسامح والتعايش السلمي وحوار الحضارات.
لاحقاً لم أشعر بالدهشة عندما علمت أن الدولة قد سلمت شقق هذا المشروع الراقي لنفس السكان الذين كانوا يقيمون في تلك المنطقة العشوائية منذ عصور علماً بأن سعر الشقة الواحدة في هذه المنطقة السياحية المطلة على نهر النيل مباشرة يتعدى عدة ملايين. ومع ذلك استلم كل من كان يملك كوخا من الصفيح شقة فاخرة. تركت هذه المنطقة التي تحد المدينة من ناحية الجنوب واتجهت شمالا نحو شاطئ البحر الأبيض المتوسط وفي الطريق شاهدت بعض سائقي السيارات غالية الثمن ومن يركبون معهم يلقون بأكياس الطعام وبقايا الفاكهة وقراطيس المقرمشات وعلب السجائر الفارغة في الشوارع النظيفة. منذ سنوات معدودات كنت قد سرت على ذات الشاطئ وشاهدت بنفسي حجم التطورات المعمارية والتجميلية الهائلة التي قامت بها الدولة متمثلة في مجلس المدينة والمحافظة وكان الشاطئ آنذاك لا يختلف عن شطآن الدول الأوروبية على الجانب الآخر التي زرتها عدة مرات. وللعلم فإن شاطئ هذه المدينة على عكس غيره مازال يستقبل رواده دون دفع أي رسوم. لقد شهد هذا الشاطئ المجاني في الماضي تصوير عدة أفلام سينمائية شهيرة وجلست على رماله أم كلثوم وكبار الملحنين والعازفين والمطربين والممثلين وغيرهم من مشاهير هذا الزمان حيث كانت كوكب الشرق أحياناً تقضي شهور الصيف في هذا المنتجع.
بالنسبة لي قضيت معظم الليل على مقهى قريب من الشاطئ الذي كان مزدحماً بالمصطافين في تلك الليلة. في صبيحة اليوم التالي ذهبت مبكرا للتمشي على الشاطئ كعادتي إبان أيام الإجازة وكانت الساعة تقترب من السابعة صباحاً. على شاطئ المنتجع الهادئ حيث المشهد البحري الجميل خاصة عندما تعانق مياه النيل أمواج البحر الأبيض وحيث الهواء المشبع برائحة اليود ودرجة الحرارة المعتدلة وانخفاض معدلات الرطوبة— هنا وفي ليلة الأمس بالتحديد كان الشاطئ مكتظاً بمئات المصطافين الذين جاؤوا للاستجمام والاسترخاء والتأمل واللعب والسهر والحب وأشياء أخرى. في صباح اليوم التالي عندما ذهبت إلى الشاطئ وجدت ما يلي: كانت الأمواج تقذف في وجهي بعشرات الحفاظات الملوثة بخراء الأطفال وعلب المشروبات الغازية وكانت الرمال على الشاطئ مغطاة بقشر الموز وقشر اللب وقشر الروبيان (الجمبري) وعظام الأسماك المشوية والمقلية وبقايا أكياس الطعام وعلب وجبات الديليفري الممزقة وفضلات الخبز وقطع من الفحم المحترق لمن كانوا يدخنون الشيشة علاوة على أغلفة أكواز الذرة المشوية وزجاجات البيرة الفارغة وكانت القذارة في كل مكان على الشاطئ الرومانسي الممتد عبر الأفق رغم وجود حاويات القمامة على بعد عدة أمتار من الشاطئ .
وللوهلة الأولى وعندما وطئت قدماي رمال الشاطئ الملوثة بقاذورات المصطافين تذكرت ملحمة الشاعر تي إس إليوت (الأرض الخراب) التي تنبأ فيها بسقوط الحضارة الغربية بسبب الانهيار الأخلاقي والفساد الاجتماعي والسلوك غير الحضاري لمجموعات كبيرة من البشر والذي تفشى في مدينة لندن في مطلع عشرينيات القرن المنصرم. عندئذ قفزت في رأسي عدة أسئلة لم أجد لها إجابات: لماذا ترك المصطافون أكوام الزبالة وراءهم على الشاطئ ولماذا لم يجمعوا بقايا السهرة المبعثرة حولهم ويضعوها في أكياس ثم يلقون بها في سلال القمامة القريبة أو لماذا لم يتركوا القمامة على الأقل في أكياس مغلقة حتى يأتي عمال النظافة في الصباح ويتم إزالتها؟
هنا تذكرت أبيات الشاعر إليوت في قصيدة (الأرض الخراب) عندما كان ينعى مدينة لندن وهو يصف مشاهد الصباح على ضفتي نهر التايمز حيث كان الرعاع من الرجال والنساء يقضون لياليهم المحرمة في الخيام المرصوصة على الشاطئ في نهايات الأسابيع وفي الصباح يفكون الخيام ويذهبون إلى حال سبيلهم تاركين وراءهم أكواماً من قوارير الخمر والمناديل الحريرية والبالونات الملوثة التي كانت تستخدم آنذاك كوسائل بدائية لمنع الحمل. لقد اعتبر الشاعر البريطاني الأمريكي المولد تي إس إليوت هذا التلوث البيئي انعكاساً للتلوث الأخلاقي والفساد المجتمعي ورأى أنه من الإرهاصات التي تشي بسقوط الحضارة الغربية. وعلى الرغم من أن فرق جمع القمامة تأتي كل صباح لتنظف الشوارع والشواطئ والحدائق في المنتجع الصيفي الجميل لكن من يذهبون إلى هذه الأماكن قبل وصول عمال النظافة والكناسين المساكين - الذين يبذلون جهودا مضنية كل يوم حتى يعود للمدينة جمالها ورونقها بعد رحيل البرابرة - لن يصدقوا ما تراه أعينهم من قبح.
إن من يذهبون مثلي إلى الشاطئ والحدائق العامة قبل وصول عمال النظافة سوف يعتقدون أن مجموعات من الدهماء والهمج والغزاة البرابرة قد هاجموا المدينة تاركين وراءهم قاذورات وقمامة وروائح كريهة لا تطاق. من ناحية أخرى فقد زحفت مشاهد الفوضى والتخلف الحضاري إلى جميع أحياء المدينة الهادئة التي كانت تعج بأعداد كبيرة من الشباب المستهترين الذين يعانون من عقد النقص والنرجسية وأمراض أخرى لا حصر لها. هؤلاء لا يحترمون أحداً ويجوبون الشوارع وهم يركبون الدراجات النارية والسيارات التي تطلق مع عوادمها أصوات فرقعات مدوية ومزعجة ليلا ونهارا وكأننا في حالة حرب وكأن المدينة تتعرض لهجوم كاسح مثل (مركبات جدعون) في الجوار حيث تم تركيب - بشكل مقصود - بعض التجهيزات التي ينتج عنها هذه الفرقعات المزعجة والمؤذية للآذان (تصرفات مقززة لا تصدر سوى من الرعاع وحثالة البشر) علاوة على الأغاني المبتذلة التي يصر أصحاب بعض السيارات أن يسمعها كل سكان الشوارع الرئيسية والفرعية دون مبالاة ودون رادع.
عندما شاهدت هذه الفوضى وسمعت الضوضاء البشعة والتلوث السمعي والتصرفات الطائشة الهوجاء التي تصيب المرء بالغثيان؛ تذكرت عندئذ يوماً كنت أقود فيه سيارتي إبان عطلة أحد أعياد الفطر في منطقة بالقرب من جبل حفيت في مدينة العين في الامارات وكان معي مجموعة من الأصدقاء وكنا نستمع في السيارة لإحدى أغنيات أم كلثوم وكان بيننا زميل لديه ضعف في السمع فطلب منى رفع صوت كاسيت السيارة ففعلت ذلك ثم توقفنا عند إشارة مرورية وكان الجو جميلا يومئذ ولذلك لم أغلق نوافذ السيارة. في هذه اللحظة جاء رجل أمن مبتسماً وكان يرتدي لباساً مدنياً واقترب مني وطلب رخصتي ورخصة السيارة وأعطاني مخالفة بمبلغ كبير والسبب ارتفاع صوت كاسيت السيارة الذي لا يكاد يسمع بالخارج لكن الشرطي كان على حق فقد كان يمكنني خفض الصوت أكثر مما كان عليه.
(طابت أوقاتكم).
-------------------------------
بقلم: د. صديق جوهر
أكاديمي وناقد ومترجم