12 - 06 - 2025

في التنوير وأزمته (2): | سؤال التنوير وآفاقه.. أوروبياً وعربياً

في التنوير وأزمته (2): | سؤال التنوير وآفاقه.. أوروبياً وعربياً

لا توجد قضية أثارت انقسامات فيما بين الفلاسفة والمثقفين، مثل قضية التنوير. هذه الانقسامات ليست سمة ملازمة للبيئة الثقافية المصرية والعربية فقط، وإنما يمكن ملاحظتها، أيضاً، في بلدان أوروبا الغربية، وهي مستمرة منذ منتصف القرن الثامن عشر إلى اليوم. واحتدم الانقسام حول التنوير في الفكر الأوروبي، والغربي بشكل عام، بعد صعود فلسفات "ما بعد الحداثة"، التي تضع "الحداثة" وقضاياها، بما في ذلك مسألة التنوير، موضع المساءلة. تُشير الباحثة الأمريكية جيرترود هيملفارب، في كتابها "الطرق إلى الحداثة: التنوير البريطاني والتنوير الفرنسي والتنوير الأمريكي"، الصادر في عام 2004، إلى أن تيار ما بعد الحداثة يرى أن مشروع التنوير وهم من أوهام الحداثة التي انقضى عهدها، وتجسيد "للإمبريالية الغربية". فهذا التيار يركز، بشكل خاص، على تحيز مفهوم التنوير، نظراً لكونه من المفاهيم الأساسية لما يعرف بالمركزية الأوروبية، وأيضاً لارتباطه بالظاهرة الاستعمارية القديمة والحديثة؛ أي الإمبريالية. وبحسب دراسات للمختصين في تاريخ التنوير، فإن التيارات ما بعد الحداثية، تقلل من شأن "التنوير" وتعتبره مفهوماً، سطحياً ومضللاً، ومسرفاً في التفاؤل، وترى أن التنوير، قبل كل شيء، مفهوم هدَّام. وهم يتفقون في هذا الموقف مع التيارات المحافظة، التي تتخذ موقفاً معادياً للتنوير بوصفه سبباً للثورات وللتغييرات الجذرية في المجتمع. ولطالما رأت التيارات المحافظة أن التنوير سبب في الثورات التي شهدتها أوروبا، منذ نهاية القرن السابع عشر، وفي مقدمتها الثورة الفرنسية.
ثمة انقسام آخر في التراث الفكري والفلسفي الغربي حول طبيعة التنوير، وما إذا كان عملية اجتماعية أم حركة فكرية؟ وعلى الرغم من الاتفاق العام فيما بين الفلاسفة على أن التنوير نتاج للتفاعل الجدلي بين الواقع المادي، أي الظاهرة الاجتماعية وبين الحياة الذهنية، أي الفكر، إلا أنهم منقسمون حول مسألة الأسبقية لِمَن، للفكر أم للواقع؟ ويميل الفلاسفة بشكل عام، بما في ذلك المنتمون للفلسفات التجريبية والمادية، إلى التركيز على الأفكار والدور الذي تلعبه في تغيير الواقع المادي، رغم تأكيدهم على أن هذه الأفكار نفسها هي نتاج لهذا الواقع المادي ولنشاط البشر. وتناولت الدراسات التي تتبعت مسار التنوير الأوروبي، الخلافات الفلسفية بشأنه. ومن بينها الدراسة الرائدة للمؤرخ البريطاني، جوناثان إسرائيل، التي صدرت في عام 2006، في كتاب بعنوان "التنوير متنازعا فيه: الفلسفة، والحداثة، وانعتاق الإنسان 1670 - 1752"، حاول من خلالها تقديم فهم أفضل لما كانت عليه أفكار التنوير حقيقة، والدور الذي لعبته ما أسماه "الروح الفلسفية"، في الثورات الكبرى التي هزت أوروبا في نهاية القرن الثامن عشر وحتى منتصف القرن التاسع عشر، والتي يرى أنها كانت في الأساس ثورات فكرية، أو كما يسميها "ثورة للعقل"، حسبما ورد في كتاب آخر له عنوانه "ثورة العقل: التنوير الجذري والأصول الفكرية للديمقراطية الحديثة"، الصادر في عام 2009. وكذلك دراسة هاشم صالح المنشورة عام 2010، في كتاب بعنوان "معارك التنويريين والأصوليين في أوروبا"، والتي يثبت فيها أن التنوير كان ثمرة معارك طاحنة امتدت لأكثر من قرن بين التيارات الفكرية المختلفة والقوى الاجتماعية في أوروبا في القرن الثامن عشر.  
ويلاحظ الدكتور ماجد موريس، الذي أسس صالون التنوير في الإسكندرية، في تقديمه للترجمة التي أعدها لكتاب "التنوير"، وهو دراسة أخرى مهمة لدوريندا أوترام، أستاذة تاريخ أوروبا الحديث في جامعة كمبردج، أن المساجلات والمناظرات والتساؤلات، تشير إلى أن النقاش في المجتمعات الأوروبية في القرن الثامن عشر كان يدور حول موضوعات مماثلة للموضوعات المطروحة على الساحة الثقافية والمعرفية في المجتمع العربي حتى الآن، لاسيما مسألة البحث عن صيغة للتدين لا تعوق التقدم أو الإصلاح ولا تحول دون إعمال العقل ولا تؤدي في الوقت نفسه إلى الفوضى والكفر. وعليه، فان دراسة التجربة الأوروبية قد تساعدنا على تصحيح النقاش الدائر حول التنوير في مصر وفي البلدان العربية، وتُعين على كشف زيف الكثير من القضايا المثارة بخصوص التنوير وأزمته في السياق الثقافي والفكري العربي، وتضع النقاش حول هذه القضية في مكانها الصحيح، كواحدة من الإشكاليات الأساسية المرتبطة بصدمة "الحداثة" ومعضلاتها في السياق العربي والإسلامي.
ومن شأن دراسة المسار الذي اتخذته مسيرة التنوير في أوروبا، أن تساعدنا، أيضاً، على تحديد ما المقصود بالتنوير بدقة، ومعرفة آلياته وقضاياه وتشابكاتها مع غيرها من القضايا ومع جوانب في الظاهرة الاجتماعية والثقافية. وقد يكون من المفيد، أيضاً، التوقف عند تجارب أخرى للتنوير في سياق الفلسفة الآسيوية، على النحو الذي بينه جي. كلارك، رئيس قسم "تاريخ الأفكار" في جامعة كنجستون في لندن، في سياق اهتمامه الأوسع بدراسة تأثير الفكر الشرقي، لاسيما الفكر الآسيوي في الفكر الأوروبي الحديث. وأشار كلارك إلى المصادر الآسيوية للتنوير في كتاب نشره في عام 1997، بعنوان "التنوير القادم من الشرق: اللقاء بين الفكر الآسيوي والفكري الغربي". وتعتمد الدراسة الدقيقة لتجارب التنوير في المجتمعات غير الأوروبية، إلى حد كبير، على التعريف الدقيق لما يعنيه التنوير، الذي يُمكننا من الانتقال من المفهوم المجرد، إلى وضع مفهوم إجرائي يساعد على دراسته، من خلال تفكيكه إلى متغيرات قابلة للقياس، على نحو يعطينا مؤشرات يمكن البحث عنها في السياقات الثقافية والاجتماعية المختلفة.
في سؤال التنوير ومفهومه
يُعد التنوير أهم منتج للفلسفة الحديثة منذ أن وضع أسسها، المتمثلة في العقلانية الرياضية، الفيلسوف الفرنسي، رينيه ديكارت (1596- 1650)، وكذلك الفيلسوف الهولندي باروخ سبينوزا (1632- 1677)، الذي اتخذ موقفاً نقدياً من اللاهوت، وانتهاء بمؤسسي الفلسفة الربوبية التي ترى أن الإيمان بالله لا يحتاج إلى الإيمان بدين معين، والفلسفات الأخرى القائمة على فكرة "الشك المنهجي". لقد مهدت هذه الفلسفات التي كانت من ثمار عصر النهضة في القرن الرابع عشر، الذي كان بداية لخروج المجتمعات الأوروبية من أسر العصور الوسطى التي وصفت بأنها ظلامية. إلا أن هناك صعوبة في معرفة جذور التغيرات والتحولات التي أفضت إلى شكل الحياة المعاصرة في المجتمعات الأوروبية ومضمونها، ويزيد من هذه الصعوبة أن التنوير لم يكن فترة وانتهت، وإنما هو عملية متواصلة من إعمال العقل للإجابة على المستجدات والإشكاليات. ويشير الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط (1724- 1804)، الذي وضع تعريفا رائجاً للتنوير، إلى أن التنوير ليس مشروعاً مكتملاً وإنما هو عملية محفوفة بالمخاطر والمشاكل، هو سلسلة من المهام والمشاكل والمعضلات والمساجلات التي دارت حول موضوعات حساسة ميزت القرن الثامن عشر في أوروبا. ومن هناك كانت إجابته بالنفي على السؤال "هل نعيش حالياً في عصر التنوير؟" لكنه كان حاسما في أن المجتمع الألماني في عصره كان يعيش "في زمن يسير نحو التنوير".
كان كانط، الذي عرف التنوير بأنه الجرأة في استخدام العقل دون وصاية أو توجيه شخص، يُدرك أن هناك درباً طويلاً ينبغي اجتيازه قبل أن يكون عامة الناس جاهزين لاستخدام عقلهم بثقة، خصوصاً في المسائل الدينية، من دون توجيه خارجي. وربما هذه إحدى المشكلات الرئيسية التي تعطل مسيرة التنوير في مجتمعاتنا، إلى جانب السلطة المستبدة المستفيدة من هذا القيد. وربما يكون تأثير الاستبداد أكبر في حالتنا على النحو الذي يبينه الدعم الذي حظي به طاغية مثل صدام حسين من قبل قطاعات عريضة من الجمهور في العالم العربي، بعد غزو الكويت. ويلاحظ مفكر بوزن الدكتور فؤاد زكريا في مقال له بعنوان "مرثية للتنوير" نشرته مجلة إبداع، عدد أبريل 1991، بأسى أن "مئة عام من التنوير لم تستطع بعد أن تغير الجوهر الحقيقي لعقول كثيرة، وما زال طريق أمامنا طويلاً"، كذلك ليس هناك ما يضمن أن "بداية الطريق مرة أخرى من خطواته الأولى" على النحو الذي اقترحه، ستحقق النجاح، خصوصاً إذا اتبعت الآليات نفسها. إن لحظة انتصار التنوير في التجربة الأوروبية تتمثل في الفترة الزمنية التي تجمعت فيها مشاريع الإشعاع العقلاني. وتحقق ذلك عندما نجحت النخب المثقفة في أوروبا وأمريكا الشمالية في نقل فكر التنوير إلى طبقات الشعب الدنيا، ولم يتسن تحقيق ذلك إلا بعد مرور قرن كامل من النقد والتفكير، الذي ساعد على تكوين رأي شعبي عام قادر على الحركة والفعل. فالتنوير بهذا المعنى لا ينفصل عن القوى الفاعلة للطبقات الاجتماعية والمؤسسات والقوى المادية التي تضافرت معاً لتدمير النظام القديم، وتمهيد الطريق لحدوث ثورة فكرية أو سياسية، تدمر النظام القديم وتؤسس لنظام جديد.
وعلاقة التنوير بالفكر الثوري، من أكثر القضايا التي تسببت في انقسام المواقف في الفكر الأوروبي. ولا شك في أن التراكم المستمر والحثيث للتفكير النقدي كان أحد الأسباب في اندلاع الثورة في أوروبا، كما أنه كان، وإلى حد كبير، العامل الأكثر إيجابية في تشكيل الواقع المعاصر ورسم مسارات "الحداثة"، التي تعني تأسيس الحياة وفق مقتضيات العقل، باعتباره الفكرة التأسيسية للتنوير، على النحو الذي حدده كانط في مقاله الشهير، "ما التنوير؟" هذا الانقسام لم يؤد فقط إلى نمو تيارات معادية للتنوير في التجربة الأوروبية، وإنما أدى كذلك إلى مشروعين للتنوير، فلم يكن هناك "تنوير واحد" حسبما يرى بعض الدارسين، بسبب الخلاف الأساسي حول ما إذا كان العقل بمفرده هو الحاكم الأعلى في الحياة البشرية، أو أنه يلزم، خلافاً لذلك، تضييق نطاق الفلسفة وعقد مصالحة بين العقل من ناحية، وكل من الإيمان والتقليد، من ناحية أخرى. ويرى جوناثان إسرائيل، أنه كان هناك، ومن البداية في نهاية القرن السابع عشر، تنويران. فهناك تنوير راديكالي (جذري) وآخر محافظ، وشكل الأخير ما يطلق عليه إسرائيل "تنوير التيار الرئيسي المعتدل". إضافة إلى حركة التنوير المضاد التي رفضت كل المبادئ وسعت للإطاحة بتياري التنوير، الراديكالي والمعتدل. وتمرد الفيلسوف الفرنسي، جان جاك روسو (1712-1778) في ستينيات القرن الثامن عشر على التنوير، إلى حد أن وصفه بعض الدارسين بأنه "النبي الأخلاقي" لأحد أشكال نزعة"التنوير المضاد".
وبينما يلاحظ إسرائيل أن الغلبة كانت للتيار الرئيسي المحافظ الذي حظي بالدعم والتأييد الرسمي والمكانة في كل مكان في أوروبا، تقريباً، باستثناء فرنسا بدءاً من أربعينيات القرن الثامن عشر، إلا أنه يشير إلى أن هذا التيار كان أقل أهمية من تيار التنوير الجذري، وكان يتعرض دائما للعراقيل، بشكل مدمر، بسبب نقطة ضعفه، ولأن كل وصفاته الفلسفية للمزج بين اللاهوت والتقليدية والعقلانية الرياضية النقدية الجديدة، كانت تعاني من خلل في التطبيق ومحفوفة بالتناقض. وعلى الرغم من أن الحركة الفلسفية الراديكالية تعرضت كثيرا للتشهير والاضطهاد من مجمل المجتمع الأوروبي والأمريكي تقريباً، إلا أن الفصيل الراديكالي، نجح بدءا من ستينيات القرن السابع عشر في إزعاج القطاع الأوسع وأعاد تعريف القضايا المحورية ووضع الأجندة الفكرية العامة، واختراق الثقافة الشعبية والرأي العام. واستطاع بحلول منتصف أربعينات القرن الثامن عشر، أن يأسر القطاع الرئيس من الطليعة الفكرية الفرنسية التي ظلت مهيمنة حتى عهد نابليون. وربما تفتح هذه الملاحظة الأخيرة مساراً يسمح لنا بالوقوف على أزمة التنوير في المجتمعات العربية، ولماذا لم يحقق دعاة التنوير في العالم العربي، منذ مطلع القرن التاسع عشر، النجاح الذي حققه تيار التنوير في أوروبا..

"مأزق" التنوير العربي والإسلامي

ربما يكون تعبير "المأزق"، الذي اختاره صبحي موسى عنوانا لدراسته عن التنوير العربي، هو أدق مصطلح لوصف حالة التنوير العربي والإسلامي. ويلخص هذا المأزق السؤال الذي طرحه المفكر المصري شوقي جلال (1931-2023) في المقدمة التي كتبها للنسخة العربية لكتاب "الثقافات وقيم التقدم"، التي صدرت في عام 2009: "كيف يفكر العرب أو المسلمون في الواقع الحياتي الملموس إزاء قضايا محددة عابرة أو حاسمة؟" وهو السؤال الذي انشغل بالإجابة عليه في كتاب "الفكر العربي وسوسيولوجيا الفشل" الذي صدر في عام 2002. تكمن المشكلة في ادعاء التيار المحافظ في الفكر العربي والإسلامي، المنتصر للوحي والذي يصر على تقييد العقل بحدود ما جاء في النص باعتباره حقيقة مطلقة، وتأكيد أن فكرة "التنوير" فكرة أصيلة في "النص" وفي التراث الإسلامي معاً، لكنه تنوير يختلف عن التنوير الغربي. ويلاحظ من كتابات الإسلاميين المصريين والعرب في موضع التنوير مدى الشراسة التي يتعاملون بها مع دعاة "التنوير"، المستند إلى إعمال التفكير النقدي والمعارضين لوضع قيود على الحدود التي يمكن أن يصل إليها التفكير أو الإبداع، لا سيما الحدود التي يضعها رجال الدين أو السلطة المستبدة. ورغم استخدام التيار المحافظ لمفهوم العقل، إلا أن العقل عندهم مخالف للعقل الذي يعلمنا تأسيس المجتمع على مبادئ الحرية الفردية والمساواة وحرية الفكر والتعبير، ويعتبرون أن مثل هذه الدعوة تندرج في إطار التنوير الغربي، لا الإسلامي. إن سيطرة هذا التيار أحد المعوقات الرئيسية لتقدم مسيرة التنوير العربي والإسلامي، ذلك أن المبدأ التأسيسي للتنوير، في أي سياق ثقافي يتعارض مع فكرة وجود حدود أو قيود على العقل، مصدرها الدين أو الإيمان، أو مع من فقدوا ثقتهم في العقل، حتى في السياق الثقافي الأوروبي والغربي بسبب انتكاسته، لاسيما مع الحرب العالمية الثانية وما بعدها، في سياق موقفهم العام من مشروع "الحداثة" وما أفضى إليه من نتائج وتداعيات. وتحتاج مناقشة منطلقات التنوير الإسلامي إلى مقال آخر، حول "التنوير" كأحد إشكاليات العلاقة بين العالم العربي والإسلامي وبين الغرب.

يهم هنا تأكيد أن موقف هذا التيار المهيمن في البيئة العربية والإسلامية، لا يختلف كثيراً عن موقف التيارات المحافظة والتيارات ما بعد الحداثية في الغرب، هذا التيار لا يعارض مصطلح "التنوير"، مثلما يعارض مصطلحات أخرى مثل "العَلمانية" أو "الليبرالية" أو حتى "الديمقراطية"، التي يرى أن تتعارض بشكل واضح مع الدين الإسلامي وتعاليمه، لكنه يعطي التنوير مضموناً مغايراً للتنوير الغربي الذي يصفونه عادة بأنه "تضليل" أو "تزوير"، ويفترضون أن غايته الخفية هي إسقاط الدين لصالح العلمانية أو الإلحاد. 

في كتابه "فلسفة التنوير بين المشروع الإسلامي والمشروع الغربي"، الصادر في عام 1991، ضمن سلسلة "تصحيح المفاهيم"، يسعى الدكتور محمد السيد الجليند، أستاذ الفلسفة الإسلامية بجامعة القاهرة، إلى تصحيح المصطلح في ذهن الشباب، باعتباره من "الكلمات المجملة في معناها، والتي التبس فيها الحق بالباطل"، والذي لا يخلو من نقد للقائمين على المؤسسات الثقافية الرسمية التي تستخدم مثل هذه المفاهيم دون تخليصها مما علق بها من شوائب وملوثات عقائدية.    

أوضحنا في الجزء السابق كيف كان الصراع من أجل الهيمنة، أو السيطرة، على المجال العام في المجتمعات الأوروبية على أشده لأكثر من قرن، بين التيار الرافض والمعادي للتنوير من جهة وبين تيار التنوير برافديه، المعتدل والجذري، من جهة أخرى، وكيف كان هناك صراع آخر داخل تيار التنوير نفسه بين التيار المعتدل والتيار الراديكالي. الحال في مجتمعاتنا العربية لا يختلف كثيراً، لكن ثمة فارق مهم يتمثل في تحصن التيار المعادي للتنوير خلف طرح مشروع للتنوير الهدف منه توجيه الفكر لوجهة معينة تنطلق من فكرة محورية الدين في المجال العام والشأن العام، وإخضاع التنوير لمقتضيات هذه الفكرة، ورفض مفاهيم التنوير التي تطورت في سياق التجربة الغربية، باعتبارها نتاج بيئة ثقافية مختلفة وتجربة دينية مغايرة، مع الإصرار هذه المرة على وجود تنوير إسلامي في مقابل التنوير العلماني الوضعي الغربي، الذي يجب رفضه لأن "يستبدل العقل بالدين ويقيم قطيعة مع التراث"، حسبما ذهب الدكتور عبد اللطيف الصباغ، أستاذ الملل والنحل والمذاهب المعاصرة بقسم الدراسات الإسلامية بكلية الآداب بجامعة الملك عبد العزيز في جدة، في محاضرة أعدها في أوائل عام 2005، يطرح فيها مفهوم "التنوير الإسلامي" الذي يراه "تنوير إلهياً"، يسعى إلى "تكوين عقلية إسلامية واعية تكون أساس نهضة إسلامية شاملة"، ويدعو إلى ما يسميه "التجديد الإسلامي الأصيل"، الذي ينقسم بدوره إلى "تحديثي" و"محافظ"، في مواجهة التنوير "التغريبي العلماني التحريفي"، برافديه "العقلاني الوضعي الجذري"، و"العصراني التحريفي".

ليس بوسع هذا التيار أن يرفض "التنوير"، بعد أن أصبحت كلمة "التنوير" أو "الاستنارة" كلمة محورية في الخطاب السياسي والفلسفي العربي، ولا يعارضون تعريفات المصطلحين في الأدبيات العربية بوصفها تعريفات عامة، تدور حول أفكار من قبيل حق الاجتهاد والاختلاف، وشجاعة استخدام العقل، والاستخدام العام للعقل في جميع القضايا، لكنه يتحفظ على خطاب التوعية والتثقيف والتحديث والتجديد التي في العالم الإسلامي التي اتسمت منذ قرنين بالطريقة الغربية تظهر إعجاباً بالغرب وعلومه وتقدمه الفكري والعلمي وبتيار النهضة والإحياء. في المقابل يطرح هؤلاء مفهوم "التنوير الإسلامي" أو "التنوير الإلهي"، مؤكدين ما هو مشترك مع معنى التنوير في الاستخدام الثقافي العربي الحديث القريب من معنى الوعي بالحاجة إلى "التقدم وإلى الإصلاح والتجديد واليقظة والنهضة"، ومعنى الاستنارة الذي يعني "الفهم والثقافة والاطلاع والاقتناع بضرورة التغيير والتقدم"، في مواجهة التزمت والجمود والتمسك بالعادات والتقاليد القديمة دون تمييز، والانغلاق على النفس ورفض الحوار والتفاعل مع الآخرين.

ويركز المنتمون لهذا التيار الذي يعد تياراً رئيسياً في الفكر العربي على أن المقصود بالنور في السياق الديني هو المعارف والحقائق التي تجلب اليقين إلى العقائد، على النحو الذي حدده الإمام أبو حامد الغزالي، رائد تيار الوحي، الرافض للمعتزلة وآرائهم المستندة إلى فكرة إعمال العقل، والمعارض أيضاً لأفكار ابن رشد الذي سعى لكشف ما بين "الحكمة"، أي الفلسفة، والشريعة من اتصال، ويؤكدون أن الدعوة إلى الاستنارة والنور مؤكدة في الوحي، لكنهم يميزون بين العلم بمفهومه العصري وبين العلم بالمفهوم الإسلامي الذي هو علم "وهبي" أو "إلهامي". ويستشهدون بنص "التنوير في إسقاط التدبير" لابن عطاء الله السكندري (1260-1309)، وهو نص صوفي نشرت طبعة محققة له في عام 2007، فكرته الأساسية هي "كيف نريح أنفسنا من كدر التدبير ونرضى بما قسم لنا". في تقديري، أنه لا مشكلة في الأفكار التي أوردها ابن عطاء الله، وهي أفكار تندرج في الإيمان كحقيقة مطلقة لدى الشخص المؤمن، وتحقق له الرضا والطمأنينة على المستوى النفسي، لكن المشكلة تتمثل في خروج هذه الأفكار من الدائرة الشخصية الضيقة إلى الدائرة الاجتماعية الأوسع، فضلاً عن أن عقيدة التسليم المطلق التي يؤسس عليها هذا النص، تتعارض مع فكرة الأخذ بالأسباب، وهي من المبادئ الشرعية الثابتة، وهذه الفكرة الأخيرة هي مناط التكليف، وأساس التفكير وإعمال العقل، وهي ضرورية لاستقرار المجتمع وانتظام أنشطته. ومشكلة هذا النوع من التفكير أنه يدفع الناس إلى قبول الاستبداد والتعايش معه، باعتبار أن في وجوده حكمة يعلمها الله ويقدرها لمن يخضعون لهذا الاستبداد. إن شيوع مثل هذه الأفكار يشكك في دخول المجتمعات العربية عصر التنوير على النحو الذي يطرحه الدكتور محمد الشرقاوي، الباحث في جامعة جورج ميسون، وهو دبلوماسي وسياسي مغربي سابق، في كتابه الصادر في عام 2016، باللغة الإنجليزية بعنوان "ما هو التنوير؟: استمرارية أم انقطاع في أعقاب الانتفاضات العربية"، الذي يتساءل فيه عما إذا كانت المجتمعات العربية قد دخلت عصر التنوير، في حين أن معظم الآراء السائدة في تلك المجتمعات بعد مرور خمس سنوات على الانتفاضات التي شهدتها بلدان رئيسية في المنطقة لا تستطيع تقديم رؤية لتقدمها السياسي، وما إذا كانت هذه الانتفاضات تُحفز صحوة عربية وإسلامية لها خصوصيتها الثقافية وفلسفتها السياسية الخاصة بها. يتحدث المؤلف عن مشروع عربي، لا يزال قيد الإنشاء، نتيجته مفتوحة لاحتمال التقدم نحو الحداثة أو التراجع نحو إعادة انتاج الاستبداد في صور جديدة؛ ومشروع آخر أوروبي تشكل في القرنين الماضيين. والمشكلة التي يطرحها الكتاب تتلخص في أن النشطاء العرب لم يحددوا صراحةً آليات التغيير الذي ينشدونه.

إن قيمة هذا الكتاب تتمثل في أنه يعيد ربط قضية التنوير بمسألة الثورة والتحرر من الاستبداد، في حين أن تجربة الانتفاضات العربية تؤكد من جديد خلاصة تجربة التنوير الأوروبية التي تفيد بأن الأفكار غالباً أكثر حسما في عملية التنوير من العملية الاجتماعية، وأن الثورة العظيمة في الفكر والثقافة تستغرق وقتاً طويلاً، وأن نجاح الثورة أو التغيير يعتمد على ما أسماه جوناثان إسرائيل "الروح الفلسفية" الضرورية من أجل حدوث التغيير الشامل. إن البحث عن ملا مح هذه الثورة الفكرية التي تسعي إلى تجديد الخطاب الثقافي الذي يشمل تجديد الخطاب الديني هو ما ينبئنا بما قد تكون عليه آفاق التنوير العربي، وهو ما سنبحثه في مقال آخر.

------------------------------
بقلم: أشرف راضي

مقالات اخرى للكاتب

في مسألة التنوير (3) | فرج فودة: معركة التنوير وسؤال المستقبل