09 - 06 - 2025

الأنبا يؤانس بين الجدل والرمزية: سكرتير المجمع المقدس تحت المجهر

الأنبا يؤانس بين الجدل والرمزية: سكرتير المجمع المقدس تحت المجهر

لا شك أن الأنبا يؤانس، سكرتير المجمع المقدس الجديد وأسقف أسيوط، شخصية محورية في المشهد الكنسي القبطي، واختيار نيافته سكرتيرًا يُعتبر قرارًا له أبعاد كنسية وإدارية وروحية مهمة، ويمكن النظر إليه من خلال عدد من المعايير التي غالبًا ما تدخل في حسابات مثل هذه التعيينات في الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، وقد أثار تعيينه مؤخرًا موجة من النقاشات، بعضها يتناول قراراته ورؤاه اللاهوتية السابقة، وعلى رأسها إقامة تمثال كبير للسيدة العذراء مريم داخل دير درنكة، وكذلك موقفه من الأب متى المسكين في أحد تسجيلاته القديمة. هذه الانتقادات، وإن بدت متفرقة، تكشف عن التوتر القائم بين الرؤى اللاهوتية المختلفة داخل الكنيسة، وبين من يتبنون خطًا تقليديًا متشددًا ومن يميلون إلى الانفتاح الروحي والفكري، بل حمل خطابه ضمن خطاب التصفية الفكرية التي أضعف فرص الحوار اللاهوتي داخل الكنيسة في العقود الماضية، فإن قصه التمثال الكبير ليس مبالغة شكلية فحسب، و لا يكرّس المظهرية على حساب الجوهر، و لم تُمنح أي كرامة لاهوتية، لكن دير درنكة يُعتبر مقصدًا للملايين من الزائرين سنويًا، وقد صُمم التمثال كعلامة ترحيب وحضور رمزي للعذراء، لا كبدعة أو تعبير لاهوتي مخالف دون مزايدات.

و لذلك فإن الأنبا يؤانس شخصية كنسية إدارية لها طابع تنظيمي وامتداد رعوي طويل، ولا يمكن تقييمه من خلال موقف أو تسجيل أو مشروع واحد، و تمثال العذراء في دير درنكة يمكن فهمه كعمل رمزي روحي في مكان تاريخي مقدس، أما مواقفه اللاهوتية القديمة، فيجب أن تُقاس في سياقها الزمني، لا تُؤخذ كدليل دائم على فكر معين، فإذا أردنا كنيسة قوية، فيجب أن نُفرق بين النقد الذي يبني، والانتقاد الذي يهدم. وبين الاتهام القائم على القلق الكنسي، والتشويه القائم على الهوى. و من المؤكد، أن نيافته له باع طويل في العمل الإداري الكنسي، خاصة خلال فترة خدمته مع مثلث الرحمات البابا شنودة الثالث كسكرتير شخصي، هذه التجربة منحته فهمًا عميقًا للهيكل الإداري للكنيسة، والتعامل مع القضايا الكنسية المعقدة، والتواصل مع الإيبارشيات داخل وخارج مصر، و اختياره يتطلب قبولًا عامًا من الأساقفة، أو على الأقل احترامًا لدوره وشخصه، و نيافته يتمتع بشخصية بعلاقات جيدة مع العديد من أعضائه، ما يجعل من تعيينه خطوة تلقى دعمًا واسعًا أو لا تواجه اعتراضات، علي العكس، في الفترات التي تمر بها الكنيسة بتحديات أو حساسيات داخلية، تُفضَّل الشخصيات التي تتمتع بالاتزان والحيادية.

 ويُنظر إليه غالبًا كشخصية هادئة ودبلوماسية، قادرة على إدارة الاجتماعات وملفات المجمع بحكمة دون انحياز، سكرتير المجمع لا يُتوقع منه فقط أن يكون إداريًا، بل أيضًا صاحب خلفية روحية ولاهوتية تساعده على فهم المناقشات العقائدية والطقسية، و نيافته له مؤلفات وعظات وتاريخ روحي ثري في هذا السياق، مما يكون كافيا للرد علي الانتقادات المثارة و غير المبررة الا انها حملة مجهولة الهوية لا تحمل خيرا للكنيسة؛ فنيافته يتمتع بخبرة دولية أيضا، نظرًا لانفتاح الكنيسة على الإيبارشيات القبطية بالخارج، فخلفية الأنبا يؤانس في السفر والمشاركة في مؤتمرات كنسية عالمية تُعد ميزة إضافية، تتيح له فهم التحديات المعاصرة للكنيسة القبطية عالميًا، فكونه أسقفًا لإيبارشية قوية مثل أسيوط، واحدة من أكبر وأهم إيبارشيات الصعيد، أعطاه نفوذًا وقاعدة دعم قوية داخل المجمع، كما أن وجوده في هذا المنصب يمثل نوعًا من التوازن الجغرافي بين شمال وجنوب مصر، فضلا عن إلمامه بتفاصيل الملفات الكنسية المعقدة والبيروقراطية الكنسية. هذا جعله مرشحًا طبيعيًا لمنصب حساس يتطلب الدراية بالتفاصيل والتوازن في التعامل مع أساقفة من خلفيات وتوجهات مختلفة، كما أنه معروف بانضباطه التنظيمي وقدرته على تسيير الأمور في كواليس المجمع والسكرتارية بدقة وهدوء، دون الدخول في صراعات مباشرة.

و علي الرغم أن الأنبا يؤانس خدم في عهد البابا شنودة، إلا أنه أثبت مرونة في التفاعل مع توجهات البابا تواضروس وليس تهميش روح التجديد ولم يدخل في مواجهة مع التغيرات الإدارية الجديدة، كما أن المجمع المقدس يميل في بعض الأحيان إلى الاستقرار في الوجوه المجربة حين تشتد التحديات، فإن منصب سكرتير المجمع هو إداري بطبيعته، ولا يشترط فيه بالضرورة الشعبية الجماهيرية، بل القدرة على التنسيق والتوثيق والعمل في الخلفية، وهو ما يتميز به الأنبا يؤانس. كما أن له رصيد رعوي في إيبارشيته ويمارس العمل الروحي بانتظام، فالسكرتير لا يحدد سياسات الكنيسة، لكن ينفذ قرارات المجمع المقدس بالإجماع. وجوده لا يعني بالضرورة كبح التجديد، بل يمكن أن يوفر توازنًا بين الحداثة والمحافظة.و الحقيقة أنه لا يوجد في القوانين الكنسية أو الروحية ما يمنع من أن يشعر شخص بالدعوة للأسقفية أو حتى البطريركية، مادام لم يسعَ إليها بطرق خاطئة. بل كثير من الآباء القديسين شعروا بالدعوة، ولكنهم وُضعوا رغمًا عنهم، و لو كان طموح الأنبا يؤانس غير نقي، لكان قد رشّح نفسه أو دفع أنصاره للضغط عليه في انتخابات البطريركية 2012 – لكنه لم يفعل. فهذه نقطة جوهرية، و ليس من المنصف أن نعتبر كل منتقد غيورًا وكل مدافع تابعًا. فهناك كثيرون يرون في الأنبا يؤانس شخصية إدارية ناجحة ومتزنة، خدم بهدوء وصمت، ويؤمنون أن منصبه لا يتطلب مواجهات سياسية بل إدارة الملفات الكنسية الدقيقة.و الغريب انه من ضمن هذة الانتقادات المفتعلة، تعيين نيافته هو خضوع مباشر لتوجهات الدولة، على انه نجدها ميزة فالتعامل بحكمه و هدوء أفضل من التصادم و يحقق نفس النتيجة،  فالمزايدات العبثية لا تبني كنيسة قوية، وهو قرار كنسي داخلي، غالبًا ما يتم بالتشاور مع البابا والأساقفة الكبار، وليس بإملاء خارجي. رغم ذلك فإن البعض يحاول العبث بوضع مقارنات الكنيسة القبطية مع كنائس أخري، رغم انها لا تعاني من هشاشة ديمقراطية أو هيمنة أمنية أو ضعف في الحريات، بل تمر بتوترات داخليه محدودة فقط، لذلك تمارس نضالها بطريقة غير تصادمية حفاظًا على ما تبقى من وجود آمن لشعبها. ولا يعني هذا ضعفًا، بل حكمة واقعية، و فيما يخص القول بأن الأنبا يؤانس ينكر ملف اختفاء القبطيات، وهذا منافٍ للواقع، فنيافته لم يُنكر الظاهرة كمفهوم عام، بل تحفظ على تضخيمها أو تعميمها دون أدلة واضحة. وهذا نابع من خوف على وحدة الصف، ومن أن تُستخدم هذه القضايا لتأجيج خطاب الطائفية، ولا يحق اختزال خدمته في إشاعة، أو تصريح مجتزأ، أو طموح سابق، اما النقد له أصول و إلمام بالقواعد و دهاليز الكنيسة، و من واجبنا ألا نظلم أو نتبنى مغالطات دون تدقيق، ولا يحق لأحد توريج أو اختزال خدمته في تصريح مجتزأ، أو طموح سابق، فإن هناك توق شديد من الشعب والآباء معًا إلى مرجعية تحسم الجدل وتحافظ على الإيمان الآبائي دون غلو أو تفريط و أهمها دعم لجان العقيدة والتعليم و مراجعة التعليم الديني المقدم في الكليات الإكليريكية و ضبط توجهات المؤتمرات والخدام في الإيبارشيات، بحيث أن يكون جسرًا بين المجمع والأساقفة المختلفين فكريًا، و يقف موقف الحَكم، لا اللاعب، في أي مشكلات داخلية، فإن الشعب ينتظر سكرتيرًا لا يُقصي، بل يحتضن ويوازن بروح المحبة.

----------------------------------

بقلم: جورجيت شرقاوي

مقالات اخرى للكاتب

الأنبا يؤانس بين الجدل والرمزية: سكرتير المجمع المقدس تحت المجهر