08 - 06 - 2025

الغدا (طُرشي) .. والحلو لِفْت !

الغدا (طُرشي)  .. والحلو لِفْت !

مع شروقِ شمس يومٍ من أيام الربيع الخلّاب، خرجنا في جولة بين الرياض الغناء؛ لننعمَ بظلِ الأشجارِ مُتصافحة الأغصان الوارف، والتي اصطفت علي حافتي تُرعة(العموم) غرب القرية، وحطتْ علي أغصانها أسرابٌ من البلابل تشدو، ووفودٌ من العنادل تُغرّد .

كان منظرُ الخُضرة، التي كست الحقولَ، فصارت أشبه ببُساط من السُندس الأخضر، آسرا يسرُ الناظرين، وكان الهواءُ رطبا عليلا بفضلِ قطرات الندى، التي كانت ككور صغيرة لامعة علي وريقات الأشجار والنباتات .

لم تدم تلك الكور طويلا، إذ سرعان ما ذابت مع أول رسولٍ من رُسل أشعةِ الشمس .

ما إن ابتلعتنا الحقول، حتى انطلقتا كأفراخ خرجت من أعشاشها نلعب، ونمرح ونتسابق في الوصول للساقية أو (الحلوفة)؛ لنستمتع بخرير الماء بفقاعاته الفضية، ورذاذه الذي يتطاير فيُداعب وجوهنا، وتمتلئ بفضله نفوسنا نشوة وقلوبنا سعادة .

كان منظرُ الجداول التي جرى فيها الماء عذبا صافيا، فبدت الحشائش  الخضراء في قاعها كلوحة جميلة، برع فنانٌ في رسمها، والتنسيق بين ألوانها، كما كان منظرُ أسماك البلطي مُتفاوتة الأحجام، وهي تتقافزُ في ماء التُرعة الصافي؛ لتلتهم قطع الخُبز مثارًا للدهشة والعجب من قدرة الخالق، الذي أبدع فسوّى .

في خِضم النشوة واللعب، شعر ثلاثتُنا بالجوع، فهاج الثعبان الملتف في بطوننا، خاصة أنّه لم يدر بخلدنا أن نقضي شَرخ النهار خارج البيت، ولكنْ كان لسحرِ الطبيعة قرارٌ آخر .

ولأنّ خروجنا فرصة لا تتكرر كثيرا، عزمنا ألّا نئد فرحتنا بأيدينا، ونقطع جولتنا وسط هذه الطبيعة البكر والجو الصحو، فتجاهلنا الجوع، وأطلقنا لأنفسنا العنان، نلعب ونمرح، فهاج ثعبانُ أحشائنا من جديد، وبصورة أشد من ذي قبل، فأجفلنا، واتفقنا علي أن يرجع كلُّ منا إلي بيته ليُحضرَ بعض الطعام، ثم يؤوب راجعا لنستأنف اللعب والمرح وسط الحقول الآسرة .

نكصتُ إلي البيت، أُسابق الريح، وما إن احتواني صحنُ الدار، حتي أخذت أذرع فيها طولا وعرضا، أفُتش عن طعام فلم أجد، إذ كانت أختي (سلوى) مُنشغلة بتقطيع شرائح البطاطس والباذنجان، وعصر الطماطم لإعداد طبق من (المسقعة)، فحدثتُ نفسي قائلا :  لو انتظرتُ حتي إعداد الطعام، سيضيعُ اليومُ، وأتأخر عن اللعب، فهرعتُ إلي (برطمان) المُخَلل، واستخرجتُ عددا من كور الليمون (المُعصفَر) ووضعتُها في طبق، وصررتُ إلي جانب الليمون عددا من أرغفة الخُبز، وقلت بصوت مهموس: شيءٌ من الغموس أفضلُ من عدمه، مُمنيا نفسي بما سيُحضره رفيقا اللعب النادي والعطار ممَّا لذَّ وطاب من الطعام، وربما أسعدنا الحظُّ، وأحضر العطار مكعبا من (الحلاوة الطحينية)، التي كان يُحضرها والده – رحمه الله – في صورة قوالب مُستطيلة؛ ليبيعها في محل بقالة لهم كان مَقصد الجميع من شتي أنحاء القرية .

الغريب أنّ ما فكرتُ فيه، فكّر فيه رفيقاي أيضا، واعتمد كلُّ منا علي أخيه، إذ لم يجدا هما أيضا ببيتيهما طعاما مُجهزا، فأسرع النادي إلي (جَرّة) التخليل، لا يلوي علي أحد، وكان في إقدامه علي (الجَرّة) أشبه بفاتح حصن بابليون، أو أسوار عكا، واستخرج عدة قرون من الفلفل المُخلل، مُمنيا نفسه بأن رفيقيه سيأتيان بما تشتهيه الأنفسُ، وتلذُّ به الأعين، ولا يخطر على قلب بشر .

أخذ العطار هو الآخر، يجوبُ أرجاء الدار؛  عساه أن يجد طعاما جاهزا، فلم يجدْ، فرنا بناظريه صوب باب محل البقالة، إلا أنه كان مُوصدا بقُفل من حديد، فهرع إلي (جَرة) المُخلَّل هو الآخر، والتي تُسمي في ريفنا المصرى بـ(الزلعة)، واستخرج ثلاثة أصداغٍ من الّلفت. واللفتُ هو نباتٌ يشبه البنجر، كان يُخَلل رأسه وعروقه، فيُقطع الرأس إلي شطرين، يُسمي كلّ شطر (صِدغا)، ووضعها - أقصد الأصداغ الثلاثة - في طبق صغير غطاه برغيف من الذرة، يشبه الطبق الطائر، وخرج من بيته يُوسع الخُطي صوب رفيقيه، حيث الرياض الغناء .

التقينا في الوقت والمكان المُحددين، وشرع كلّ واحد يفضُ بكارة صُرته، ويكشفُ عما بها، فأسرعتُ أخبرهما بأنني لم أجد بالبيت طعاما معدا، فأحضرتُ ليمونا مُخَللا، وسبحت بخيالي الخصب في لجج ما ستُحضرانه من طعام شهي .

لم أفرغ من كلامي، حتي انفجر النادي ضاحكا، وأخرج من صرته قرون الفلفل الحار، التي بدت أشبه برماحٍ معقوفة تقطُر دما، فصرخ العطار، واستلقي علي ظهره من شدة الضحك، وقال: لستُ بأفضل منكما حالا، إذ لم أجد طعاما، فأحضرتُ ثلاثة أصداغٍ من اللفت .

رضينا بالأمر الواقع، مُحوقلين ومُحسبنين ومُسترجعين، واتفقنا بعد المداولة علي أن نبدأ بأكل الفلفل؛ اعتمادا علي أنّ هناك صنفين آخرين من المُخلل يُخففان من وطأته، بعدها نلتهم الليمون المُعصفَر، ثم نُحلّي باللفت؛ ظنا بأنه سيكون بَرْدا وسلاما، ولكن بعض الظن إثم، إذ كان اللفت نارَ الله الموقدة، وكان قرارُنا بئس القرار .

من غواية السيرة الذاتية  .

---------------------------------

بقلم: صبري الموجي 

مدير تحرير الأهرام

مقالات اخرى للكاتب

الغدا (طُرشي)  .. والحلو لِفْت !