خمسة وخمسون عامًا مرت على 5 يونيو 1967، ولا يزال صداه يتردد في الخطاب الثقافي العربي، ليس بوصفه هزيمةً يجب تجاوزها، بل كحالة ذهنية تُعاد صياغتها باستمرار. تحوّلت النكسة من لحظة مؤقتة إلى أزمة طويلة الأمد، ومن حدث تاريخي إلى وعي مهزوم يسكن الكثيرين. أصبح الفشل مادةً يعاد إنتاجها بدلًا من تحديها، تحول النقد إلى استسلام، والوعي إلى انكسار.
مع كل أزمة سياسية، يعود خطاب النكسة إلى الواجهة، لا كمحاولة لاستيعاب أسبابها، بل كملاذ للهروب من المواجهة، وكأن الحاضر لا يوجد إلا في ظلال الهزيمة، وهنا تتبدى أزمة أعمق: أزمة ثقافة تعيد تدوير الفشل، لا لتتجاوزه، بل لتكرّسه، فتخلط بين نقد الذات وإلغائها، وبين استيعاب التاريخ والتشبث به حدّ الغرق.
الأخطر من النكسة ذاتها أن يتحوّل بعض الخطاب الثقافي العربي من أداةٍ للتجاوز والنهوض إلى انعكاسٍ للهزيمة، يُكرّسها بدل أن يقاومها. صار الخطاب بكائيةً بلا مشروع، وندبًا مستمرًا بلا مراجعة تقود إلى التغيير.
تبدأ أزمة هذا الخطاب حين يكتفي بوصف الألم، ويستأنس بالبقاء في الخراب، بدل أن ينهض من رماده ليبحث عن مسار جديد. هكذا تحول بعض المثقفين من ضمير الأمة إلى مجرد أصواتٍ نشاز في جوقة البكاء في "مولد الندب السنوي".
كان من المنتظر أن يكون المثقف العربي، بعد "نكسة يونيو"، في موقعٍ مغاير: ناقدًا لا نائحًا، مفكّكًا لبنية الهزيمة لا مروّجًا لها، حارسًا للوعي لا عرّافًا للخذلان.
ما حدث في حالاتٍ كثيرة، أن جزءًا من النخبة الفكرية ارتضى لنفسه أن يتحوّل إلى بوقٍ من أبواق البكائية الجماعية، أو إلى قارعٍ طبولٍ في حفلات الندب، حيث تُوزّع "نوتة" الخيبة على الموالين كما تُوزّع الأدوار في حفلة زار صاخب.
فضل بعض المثقفين الارتهان لزمن الهزيمة، لا ليؤرّخوا له، بل لاتخاذه درعًا يقيهم مسؤولية الفعل، وتنصّلًا من واجب الإسهام في تشكيل وعي جديد. بات خطابهم لوحة مشبعة بالأسى، لكنها خاوية من أي رؤية أو مشروع، فكانوا كمن يُطيل النظر في الجرح ليؤكده، لا ليضمده.
بدل أن يحمل المثقف سؤال النهضة في زمن الانكسار، اختار أن يدير ظهره للجوهر، منشغلًا ببناء خطابه على أنقاض الحلم. بل إن بعضهم جعل من البكاء على النكسة وظيفة دائمة، تدرّ عليه شرعية رمزية، ومكانة في السوق الثقافي، وانتشارًا واسعًا على منصات التواصل حيث الضجيج هو اللغة السائدة، وهكذا أصبح إنتاج اليأس أكثر شيوعًا من إيقاد بصيص أمل.
**
إنّ استمرار هذا النكوص في الخطاب الثقافي العربي لا يمثل مجرد خيبة عابرة، بل هو تهديدٌ وجودي لمستقبل الأمة.
حين يتحوّل المثقف إلى شاهدٍ سلبي على انكسارات الأمة، أو شريكٍ رمزي في ترسيخ روح الهزيمة، فإنّ الأجيال القادمة تُحرَم من أدوات التقدّم: من المعنى، من البوصلة، من الحلم. ولا تنهض أمة بلا أمل، ولا يُبنى مشروعٌ بلا فكرة، ولا تنجح ثورة بدون وعي يرافقها ويحميها من الردّة والانحراف.
إنّ خطورة هذا التيار من مثقفي التيه واليأس لا تكمن فقط في عجزهم عن اقتراح البدائل، بل في قدرتهم على تزييف الوعي، وتطبيع الاستسلام، وإعادة تعريف الممكن ليصبح هو ذاته المستحيل. وهم، في ذلك، ليسوا أقل ضررًا من أنظمة القمع ذاتها، بل ربما كانوا حلفاءها الرمزيين، حين يصير خطابهم غطاءً ثقافيًا لهزيمةٍ سياسيةٍ متواصلة.
**
ولعلّ ما يعيشه الواقع العربي اليوم من استباحةٍ شاملة، ليس سوى الثمرة المُرّة لمسارٍ طويلٍ من تكريس الهزيمة، حيث لم تعد الهزيمة حالة عابرة بل تحوّلت إلى وعيٍ زائف، ومزاجٍ ثقافي عام، ونظام رمزي يُعيد إنتاج الخضوع والانكسار.
لقد صار الوطن العربي كلّه ساحةً مفتوحة للتدخل، وحقلاً مباحًا للاحتلالات الناعمة والخشنة، من غير أن تُرفع حتى صيغة الاعتراض اللفظي.
لم يعد القرار العربي يُصاغ داخل العواصم العربية، بل يُملَى من خارجها، في عواصم كانت تُسمّى يومًا 'مراكز الهيمنة'، ثم صارت تُعامل كمرجعيات.
في هذا السياق، تبدو القضية الفلسطينية، وهي جوهر الوجود العربي، كأنها عبءٌ على الأنظمة، وإرثٌ ثقيل تسعى بعض النخب لتجاوزه بأي صيغةٍ كانت: بالتطبيع، أو بالصمت، أو بإعادة تعريف العدو.
بعض الذين أطالوا البكاء على "حائط النكسة" باتوا شركاء في هذا التحوّل، عبر ترويج خطاب 'الواقعية' الزائفة، التي تطلب من الشعوب أن تنسى قضاياها لتلتحق بركب 'الاستقرار'، وكأنّ الاستسلام هو شكلٌ متقدّم من أشكال الوعي.
لم يعد خطاب الهزيمة مقتصرًا على النواح على الماضي، بل تحوّل إلى برنامجٍ عملي لإعادة صياغة الحاضر على صورة الانكسار. ثم لم يعد الانكسار مجرد رواية تُتداول في الكتب، بل صار واقعًا يُدار، وسياسات تُنفّذ، وثقافة تُبرّر، وأجيال تُربّى على ضآلة الطموح وهشاشة الكرامة.
**
لا يمكن إنكار أن هذا المسار الطويل من الإنهاك الرمزي والسياسي للأمة العربية بدأ بما يمكن وصفه بـ'الزلزال العربي الكبير' في يونيو 1967، حين سقط المشروع القومي في امتحانه العسكري، غير أن تلك اللحظة، بكل قسوتها، لم تكن خاتمة المسار، بل فتحت الباب لإعادة التفكير، والتقييم، والتدارك.
وكان أكتوبر 1973 هو الردّ، لا من الجيوش وحدها، بل من الوعي العربي ذاته، الذي أراد أن يقول: لم نُهزم بعد.
المأساة لم تكن في الهزيمة العسكرية بقدر ما كانت في العجز عن تحويل النصر الجزئي إلى مشروعٍ شامل يعيد بناء الإنسان العربي على قاعدة الفعل لا الغنيمة، والمواطنة لا الشعارات.
ولكن "ندابي يونيو" يغفلون عن ذلك.
تمت أكبر عملية لتفريغ "أكتوبر" من مضمونه التحرّري، وجرى استثماره كرصيدٍ سلطوي بدل أن يكون لحظة تأسيسٍ جديدة لعقد اجتماعي عربي ينهض بالأمة.
عادت الأنظمة إلى إنتاج الأدوات القديمة نفسها، واكتفت بتوظيف النصر كوسيلة لتعزيز الشرعية، دون أن تترجمه إلى تحوّل في البنية السياسية أو الثقافية.
ثم جاء الربيع العربي، لا كمؤامرة كما أراد البعض أن يصوّره، بل كموجة جديدة من الأسئلة الكبرى: سؤال الحرية، وسؤال الكرامة، وسؤال الدولة.
لكنه واجه مصيرًا شبيهًا بما بعد أكتوبر، حين تكالبت عليه قوى الداخل والخارج لإجهاضه، وتجريمه، وتحويله إلى قصة فوضى لا إلى فرصة للتجديد. وبهذا اكتملت حلقات المسار: من نكسةٍ عسكرية، إلى انتصارٍ منزوع الدسم، إلى ثورةٍ مُمزقة بين التشكيك والتخوين.
**
كما مثّلت نكسة يونيو اختبارًا للضمير الثقافي العربي ما بعد منتصف القرن العشرين، جاءت لحظة ما بعد الربيع العربي لتعيد الاختبار ذاته، بشروطٍ أكثر تعقيدًا، وسياقٍ أكثر اضطرابًا.
سرعان ما انكشف زيف ادعاءاتٍ كثيرة، وسقطت أقنعة كانت تتزيّن بخطاب الحرية والتنوير، فإذا ببعض من اعتُبروا رموزًا للثقافة ينكفئون إلى مواقعهم القديمة: مترددين، خائفين، أو متورّطين في إعادة إنتاج منظومات القمع ذاتها، ولكن بلغةٍ جديدة.
لم يخرجوا من وعي النكسة، كأنهم ارتدوا جلد الهزيمة إلى الأبد، نقلوا روحها إلى زمنٍ آخر، فصاروا يتحدثون عن الثورة كما كانوا يتحدثون عن الهزيمة: باعتبارها خطأ تاريخيًا، أو فوضى لا بدّ من وأدها، أو حُلمًا مستحيلاً لا جدوى من ملاحقته.
بعض هؤلاء استمرأ لعب دور "المحلّل الموضوعي" الذي يقف على التلّ، يُحصي الخسائر وينعى الأحلام، لكنه لا يقدّم بديلًا، ولا يتحمّل مسؤولية.
تحوّلوا إلى ما يمكن تسميته بـ'مثقفي الإحباط الممنهج'، الذين لا يكتبون إلا عن ضياع المعنى، ولا يرون في الأمة سوى جثة هامدة، ولا يجدون في الشعوب سوى قطيعٍ قابلٍ للانقياد أو للتيه.
بهذا المعنى، لم يكن فشل ما بعد الربيع العربي فشلًا سياسيًا فقط، بل كان أيضًا سقوطًا نخبويًا مدوّيًا.
سقطت تلك النخب التي لم تعد ترى في المستقبل سوى مرآة للهزيمة، ولا في الفعل سوى عبثًا، ولا في التغيير سوى مؤامرة.
وهكذا، بدل أن يكون المثقف في قلب المعركة، سار برجليه إلى هوامشها، مراقبًا باردًا أو محللًا انتهازيًا، وربما شريكًا غير معلن في الردّة الشاملة التي أطاحت بالثورة، وقبلها بالأمل.
**
وهكذا، يمكن القول إنّ الأمة لم تُهزم فقط بالسلاح، بل أُنهِكت عبر مراحل متعددة، تمّ فيها تفريغ اللحظات الحاسمة من مضمونها، حتى أصبح العربي اليوم مُنهكًا سياسيًا، ومشوّشًا فكريًا، ومقطوعًا عن أي سرديةٍ جامعة تعطي لمعنى الانتماء طاقة الفعل والمبادرة.
وما نراه اليوم من ضياعٍ للقضية الفلسطينية، ومن انكشاف القرار العربي، ومن انهيار في التصورات الجماعية لما هو ممكن وما هو مشروع، ليس سوى النتيجة الطبيعية لهذا المسار الطويل من التشويش على الوعي، وتدجين الطموح، واغتيال اللحظات الفاصلة التي كان يمكن أن تُعيد للعرب ثقتهم بالمستقبل.
لقد آن الأوان لأن يدرك الجميع أن المعركة لم تعد على الجغرافيا وحدها، بل على الوعي؛ وأنّ سقوط فلسطين ليس فقط سقوط أرض، بل سقوط سردية؛ وأنّ انهيار القرار العربي ليس حادثةً معزولة، بل نتيجةٌ لتآكل الداخل وتفريط النخب وتواطؤ الصمت.
ولعلّ أول ما يجب كسره في هذه اللحظة هو وهم الحياد، وادّعاء البراءة من المصير. فلا البرج العاجي للمثقف يُعفيه، ولا منبر الواعظ يبرّئه، ولا خطاب الواقعية السياسية يُنجي من لعنة التاريخ.
إنها مسؤولية الجبهة كلها، من القمة إلى القاعدة. مسؤولية أن نعيد للعرب ثقتهم بأنفسهم، لا كحالة نفسية عابرة، بل كخطة استعادة كاملة: للكرامة، للسيادة، وللمشروع، ذلك هو التحدي، وتلك هي المعركة. فكفاكم ندبًا.
_-----_-------------------------------
بقلم: محمد حماد