أسعدنى خبر قرأته فى الجمعة الأخيرة من مايو أن جماعة من أهل أسوان فى أقصى جنوب مصر قاموا بعد الصلاة إلى وكر مخدرات فى قريتهم فهدّموه وحرّقوه، ثم قرأت بعد أيام قليلة أن مظاهرة مستنكرة لتجارة المخدرات قد خرجت ببعض المدن المصرية، فاستبشرت خيرًا لفطنة الشعب وإنكاره على المجرمين، ثم قبل انقضاء الأسبوع جاءنى من الأخبار ما توجست منه خيفة، ذلك أن طالبين فى الإسكندرية أقصى شمال مصر قيل إنهما قد أنكرا على بائعى المخدرات تجارتهم فقُتلا !
هذه الوقائع التى ذكرت قد وقعت بمصر فيما دون الأسبوع الواحد، وهى عند الناظر المستبصر أمارات على أمور لا يجدر بالدولة المصرية إرجاؤها أو التغافل عنها:
فأولها: قد فطن عامة الناس إلى شدة الضرر الذى تحدثه أصناف المخدرات المستحدثة بأبنائهم، حتى إنها لتُحيل الشاب الفتىَّ إلى مسخ شائه، لا يُحسن قولًا، ولا عملًا، ولا قيامًا، ولا قعودًا، وإن حيوانات البرية لتملك أمرها خيرًا من مدمن هذه الأصناف، فلم يجدوا بُدًّا إلا أن يدفعوا بأيديهم عن بنيهم هذا الوبال.
وثانيها: إبطال سلطة الدولة، فأنا أعلم جهد إدارة مكافحة المخدرات بالداخلية المصرية، وأعلم جهد حرس الحدود وغيرهما فى ضبط المخدرات وتجارها وموزعيها قبل أن يفسدوا فى الأرض، لكن الناس لا تزال ترى التاجر يبيع منكراته نهارًا فى مقهى أو على قارعة الطريق، فكفروا باتباع خطوات القانون (وهم معذورون) لما يرون أنه لا يردع مجرمًا، ولا يمنع من جريمة، وأن أقل شبهة تبرئ تاجر الأذى وحامله ومروجه، ثم يخرجون فيعيدوا عدوانهم على الشعب، فاهتدى الناس ان يسبقوا هم دواوين الشرطة والنيابة والقضاء، فبادروا إلى تطهير أرضهم وديارهم من تجار المخدرات، وهذا وإن بدا حسنًا فى أوله إلا أنه نذير للدولة أن الناس استغنت عنها فى أعلى حاجات الإنسان وهى الأمن، ولم يبالوا بعصابات ولا سلاح، فهم فى غيرها أشد استغناء عن الدولة، بل أقولها صريحة فصيحة: إن مبادرة الناس إلى استنكار تجارة المخدرات جهرة وعلانية دون خوف ولا وجل، هو وإن بدا فى ظاهره إنكار ورفض للمخدرات وأهلها، إلا أنها فى باطنها ثورة على سلطة الدولة التى توقعوا أن تُحسن رد غائلة تجار المخدرات عن أبنائهم خيرًا من ذلك.
وثالثها: أن هذا نذير (حرب أهلية) بين طائفتين من المواطنين المصريين لكل منهم فئتة وعصبته التى تتحزب له، وما طالبَى الإسكندرية (إن صحت الرواية) منا ببعيد، فإن تجار المخدرات لا يتهيبون ملاقاة الشرطة بالسلاح والنار، فهم للمدنيين أقل تهيبًا، وأكثر جرأة عليهم، فيورث هذا ثارات فى العائلات والقبائل، بل ربما تجاوز الأمر تجار المخدرات فينطلق كل خصم إلى خصمه فيزهق نفسه، ويتلف ماله، ويعتدى على عياله، ثم يزعم أنه كان تاجر مخدرات!
إننا أغنى ما نكون أن نجعل الناس عصائب مقتتلة، فمن أجل هذا أقول للدولة (وهى أعلم) إن الأمر جد ولا ينبغى إلا أن يكون جدًّا، فإن كانت التشريعات القديمة لا تفى بمكافحة التجار الجدد والمخدرات المحدثة، فلتبادر بسن القوانين المشددة، وإن كان رجال إدارة المخدرات لا يألون جهدًا فى المكافحة لكن العدو أكثر عددًا، وأوسع حيلة، وأحدث طريقة وجب إمدادهم بما يحتاجونه من رجال وعتاد ليدفعوا هذا البلاء العظيم عن الأمة.
إننى لا أكتب مقالتى هذه لتبادر الدولة إلى معاقبة الأهالى ممن خرجوا مستنكرين تجارة المخدرات، فإنهم معذورون معذورون يدافعون عن أبنائهم، لكن من الخطر والضرر أن يُترك زمام المبادرة بيد الناس، فإنه أولًا لن يبطل تجارة المخدرات، وثانيًا سيبطل الحاجة إلى سلطة الدولة، وثالثًا ربما أشعل حربًا أهلية، ونحن فى غنى عن ثلاثتهم، إذًا فلتبادر الدولة ولتتولَّ مقاليد سلطتها قبل أن يكون ما لا يحمد عقباه.
---------------------------
بقلم: محمد زين العابدين
[email protected]