الهجرة من منظور الدولة الأصلية:
1- سلاح ذو حدين:
تُعدّ الهجرة سلاحًا ذا حدين بالنسبة لبلدان المنشأ (الوطن الأم) من العالم النامي الفقيرة.
بالنسبة للعديد من الدول النامية، حيث تندر الفرص الاقتصادية وتستمر القوى العاملة في النمو، تبرز الهجرة كنتيجة حتمية لتحسين التعليم والتنقل. ومع ذلك، فإن هذه الحركة البشرية ليست خالية من التعقيدات، إذ تُشكّل ظاهرة "هجرة الأدمغة" - أي فقدان الأفراد المهرة لصالح دول أغنى - تحديات كبيرة إذ تتجاوز الهجرة مجرد رحيل الأفراد ذوي التعليم العالي. يهاجر الفقراء بحثًا عن سبل العيش الأساسية ونوعية حياة أفضل، سواء داخل بلدانهم (الهجرة الداخلية) أو عبر الحدود (الهجرة الدولية). يُمثّل كل نوع من أنواع الهجرة هذه تحديات وفرصًا مُختلفة. ومع تفاقم تغير المناخ، من المتوقع أن يرتفع عدد المهاجرين حول العالم بشكل كبير. ويُمكن لدراسة أبعاد هجرة الأدمغة والهجرة الداخلية والهجرة الدولية أن تُساعدنا على فهم هذه التحولات العالمية والاستعداد لها بشكل أفضل.
2- الهجرة ونزيف الأدمغة:
لا تزال هجرة الأدمغة قضيةً مثيرةً للجدل نظرًا لتأثيرها المزدوج. فمن جهة، يحرم رحيل العمالة الماهرة الدول النامية من الخبرات التي تشتد الحاجة إليها، مما يعيق التقدم الاقتصادي ويضعف المؤسسات. ويشتد هذا الوضع بشكل خاص في قطاعات مثل الرعاية الصحية، حيث تستثمر الدول في تدريب الكفاءات، ثم تفقدها لصالح وظائف ذات رواتب أعلى في الخارج. وتُجسّد حالة الممرضات الزامبيات هذه القضية بوضوح، حيث يعمل عدد أكبر من الممرضات المتدربات في زامبيا الآن في المملكة المتحدة مقارنةً بزامبيا، مما يُفاقم النقص الحاد في الكفاءات الصحية في البلاد. من جهة أخرى، يُمكن أن تُحقق هجرة العمالة الماهرة فوائد، مثل نقل المعرفة، والتواصل الدولي، والتحويلات المالية. وتُسلّط أمثلة بارزة لمهاجرين ناجحين - مثل أينشتاين وفون نيومان وإيلون ماسك - الضوء على كيفية ازدهار المواهب في ظل الظروف المناسبة، وكيف يُمكنها تعزيز العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية بين الدول.
ومع ذلك، فإن التحويلات المالية، رغم ضخامتها، لا تُعوّض بشكل كامل الخسارة الاقتصادية للعمالة الماهرة. ففي عام ٢٠٢٢، بلغت التحويلات المالية العالمية ما يقارب ٧٩٤ مليار دولار، متجاوزةً بذلك المساعدات الإنمائية الرسمية بفارق كبير. ورغم أن هذه الأموال تُوفّر الاستقرار المالي للأسر وتقوي المؤسسات المالية، إلا أنها لا تُترجم – دوما - إلى استثمارات طويلة الأجل في النمو الاقتصادي. ويتمثل التحدي الذي تواجهه الدول النامية في تحقيق التوازن بين الاحتفاظ بعدد كافٍ من المهنيين الماهرين لاستدامة التنمية المحلية، مع تبني شبكات قوية من المغتربين القادرين على المساهمة في بلدانهم الأصلية بطرق فعّالة. ويُنظر بشكل متزايد إلى "نموذج المغتربين" كنهج قابل للتطبيق، يقبل المهاجرين كجزء من شبكة وطنية ودولية أوسع، لا كخسارة لبلدانهم الأصلية.
3- النزوح الداخلي:
لا تشمل الهجرة دائمًا عبور الحدود الدولية؛ بل يضطر الكثيرون إلى الانتقال داخل بلدانهم بسبب الصعوبات الاقتصادية والتوسع العمراني، بالإضافة إلى تغير المناخ المتزايد. وتشير دراسات البنك الدولي إلى أنه بحلول عام ٢٠٥٠، قد تُجبر العوامل المتعلقة بالمناخ ما يصل إلى ٢١٦ مليون شخص على الهجرة داخل بلدانهم. وعلى عكس النزوح الناجم عن الحروب أو عدم الاستقرار السياسي، تُمثل الهجرة المناخية تحديات فريدة تتطلب إجراءات وطنية وعالمية. ويمكن للحكومات المساعدة في التخفيف من حدة النزوح الداخلي من خلال الاستثمار في التكيف مع المناخ، وتحسين البنية التحتية، وتطبيق ممارسات مستدامة لإدارة الأراضي.
بدون تدخل، قد تُحدث الهجرة المناخية اضطرابات اجتماعية واقتصادية هائلة، مما يُركز السكان في مدن غير مُجهزة لاستيعابهم، ويزيد من التنافس على الموارد. ومع ذلك، يُمكن للسياسات الاستباقية أن تُقلل بشكل كبير من عدد النازحين. وبحسب البنك الدولي، فإن الجهود المبذولة لخفض انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري، والاستثمار في التنمية المستدامة، وتدعيم قدرة النظم البيئية على الصمود، من شأنها أن تقلل عدد المهاجرين بسبب تغير المناخ بنسبة 80%، مما يحد من الهجرة القسرية إلى ما يقدر بنحو 44 مليون شخص بحلول عام 2050. وستحدد سبل الاستجابة للهجرة الداخلية ما إذا كانت ستؤدي إلى أزمات إنسانية أو استراتيجيات تكيف مستدامة.
4- الهجرة الدولية:
بالنسبة للكثيرين، يعني الهروب من آثار تغيّر المناخ والصعوبات الاقتصادية تجاوز الحدود الوطنية. وبينما تتفاوت تقديرات الهجرة الدولية المستقبلية تفاوتًا كبيرًا، يتوقع البعض أن يتأثر ما يصل إلى مليار شخص بالظروف المناخية القاسية بحلول عام 2050. وسيعتمد حجم النزوح على كيفية استجابة قادة العالم لأزمة المناخ، وما إذا كانت جهود التنمية المستدامة في المناطق المعرضة للخطر تحظى بالتمويل الكافي. وتشير التوقعات الحالية إلى أن ما بين 25 مليونًا و200 مليون مهاجر بيئي قد يعبرون الحدود الدولية بحلول منتصف القرن. وبالطبع، للدول الغنية مصلحة راسخة في دعم جهود التكيف التي تبذلها الدول النامية، ليس فقط لأسباب إنسانية، ولكن أيضًا لمنع النزوح واسع النطاق الذي قد يُؤثّر سلبًا على العلاقات الدولية. إن الاستثمار في مشاريع بناء القدرة على الصمود، وتطوير البنية التحتية، واستراتيجيات التخفيف من آثار تغير المناخ من شأنه أن يُسهم في الحد من العوامل الدافعة للهجرة. ومن خلال توفير الدعم المالي والتكنولوجي، يُمكن للدول الغنية أن تلعب دورًا حاسمًا في تحقيق الاستقرار في المناطق الأكثر عرضة للخطر ومنع النزوح الجماعي. وتتطلب معالجة الأسباب الجذرية للهجرة الدولية تعاونًا وتخطيطًا طويل الأمد، والتحول من سياسات رد الفعل إلى حلول استباقية.
5 - التحويلات المالية:
تلعب تحويلات المهاجرين المالية دورًا حاسمًا في دعم الاقتصادات وتحسين سبل العيش في بلدانهم الأصلية، وغالبًا ما تتجاوز مساعدات التنمية الرسمية والاستثمار الأجنبي المباشر في العديد من الدول منخفضة أو متوسطة الدخل. وفقًا للبنك الدولي، بلغت التحويلات المالية العالمية إلى البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل حوالي 669 مليار دولار أمريكي في عام 2022، مما يُبرز أهميتها كتدفق مالي مستقر. تُساهم هذه الأموال في الحد من الفقر، وتحسين التعليم والرعاية الصحية، وتنمية المشاريع الصغيرة، حيث تُظهر الدراسات أن زيادة التحويلات بنسبة 10% يُمكن أن تُؤدي إلى انخفاض بنسبة 3.5% في نسبة الفقراء . بالإضافة إلى ذلك، تُوفر التحويلات المالية شبكة أمان بالغة الأهمية خلال الأزمات الاقتصادية، حيث تُمثل دعمًا ماليًا مُعاكسًا للدورات الاقتصادية عندما تواجه البلدان المُتلقية فترات ركود . وعلى عكس المساعدات الخارجية، التي قد تخضع لظروف سياسية، تُمثل التحويلات المالية تحويلات مباشرة للأسر، مما يضمن استخدامًا أكثر فعالية وفورية للأموال. علاوة على ذلك، تُساهم التحويلات المالية في استقرار الاقتصاد الكلي من خلال تعزيز احتياطيات النقد الأجنبي وتحسين الجدارة الائتمانية للدول المُتلقية (صندوق النقد الدولي، 2020) . ويُبرِز الأثر الاقتصادي والاجتماعي للتحويلات المالية الدور الأساسي الذي يلعبه المهاجرون في التنمية العالمية، مما يُفيد كلًا من البلدان المُضيفة والمجتمعات التي يدعمونها في الخارج.
6- الاستنتاجات
الهجرة ظاهرة عالمية مُستمرة تُمثل تحديات وفرصًا في آنٍ واحد لبلدان الوطن الأم الفقيرة في نصف الكرة الجنوبى. وبينما تستنزف هجرة الأدمغة العمالة الماهرة من الدول النامية، تُقدم التحويلات المالية وشبكات الشتات فوائد قيمة. ويمكن إدارة الهجرة الداخلية، وخاصةً النزوح الناجم عن تغير المناخ، من خلال استراتيجيات تكيُف مُستهدفة، بينما تتطلب الهجرة الدولية تعاونًا وسياسات استشرافية. فيجب على الدول الغنية أن تُدرك دورها في تشكيل أنماط الهجرة العالمية، وأن تستثمر في وضع حلول تُعالج الأسباب الجذرية بدلاً من الاكتفاء بردود الفعل على الأزمات. فمع تسارع تغير المناخ واستمرار الفوارق الاقتصادية، ستزداد الهجرة، مما يجعل من الضروري وضع استراتيجيات تُحوّل هذا التحدي إلى واقع عالمي مستدام وشامل.
خامسًا: أربع ملاحظات مهمة
الملاحظة الأولى: تدفقات النزوح الداخلي والهجرة الدولية كبيرة ومن المرجح أن تزداد.
بلغت تدفقات النزوح الداخلي والهجرة الدولية مستويات غير مسبوقة، ومن المتوقع أن يرتفع كلاهما بسبب عوامل مختلفة مثل الصراعات والتغير المناخي والتفاوتات الاقتصادية. وفقًا للمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNCHR, 20023) تجاوز عدد النازحين قسرًا في جميع أنحاء العالم 114 مليونًا في عام 2023، بمن فيهم اللاجئين وطالبي اللجوء والنازحين داخليًا. وقدّر مركز رصد النزوح الداخلي أنه في عام 2023، بلغ عدد النازحين داخليًا بسبب الصراع والعنف وحدهما أكثر من 71 مليون شخص، مع حالات نزوح إضافية مدفوعة بالكوارث المرتبطة بالمناخ، مثل الجفاف والفيضانات والأعاصير. ومن المتوقع أن يكون تغير المناخ محركًا رئيسيًا للهجرة في العقود القادمة، حيث يقدر البنك الدولي (2021) أنه بحلول عام 2050، قد تجبر الهجرة المرتبطة بالمناخ ما يصل إلى 216 مليون شخص على الانتقال داخل بلدانهم. وتسلط هذه الاتجاهات الضوء على النطاق المتزايد للنزوح والحاجة الملحة للتعاون الدولي لمعالجة أسبابه الجذرية.
كما تتزايد تدفقات الهجرة الدولية، مدفوعة بالفرص الاقتصادية وعدم الاستقرار السياسي والتغيرات الديموغرافية. تشير تقارير المنظمة الدولية للهجرة إلى وجود ما يقارب 281 مليون مهاجر دولي في عام 2022، أي ما يعادل 3.6% من سكان العالم. ولا تزال هجرة العمالة عاملاً هاماً، حيث ينتقل العمال إلى البلدان ذات الدخل المرتفع بحثاً عن آفاق اقتصادية أفضل، لاسيما من المناطق التي تعاني من ارتفاع معدلات البطالة وانخفاض الأجور. إضافةً إلى ذلك، أدت الصراعات في مناطق مثل سوريا وأوكرانيا وأفغانستان إلى تحركات جماعية عبر الحدود، مما أدى إلى أزمات لاجئين جديدة. ونظرًا للاختلالات الديموغرافية العالمية - مثل شيخوخة السكان في البلدان ذات الدخل المرتفع وكثافة الشباب في البلدان منخفضة الدخل - فمن المرجح أن تستمر الهجرة كَسِمة هيكلية للاقتصاد العالمي . ومع تزايد الضغوط الاقتصادية والبيئية، ستستمر تدفقات الهجرة في تشكيل المشهد السياسي العالمي والإقليمي، مما يتطلب سياسات تكيفية وتعاونًا دوليًا.
الملاحظة الثانية: معظم المهاجرين يقيمون في البلدان النامية الفقيرة
على عكس الاعتقاد السائد بأن الهجرة تؤثر في المقام الأول على الدول الغنية، فإن الغالبية العظمى من اللاجئين والنازحين تستضيفهم البلدان النامية. فوفقًا لتقرير مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين لعام 2023 حول النزوح القسري ، فإن ما يقرب من 75٪ من اللاجئين والنازحين في العالم مستضافون في بلدان منخفضة أو متوسطة الدخل، وغالبًا في مناطق تعاني من الفقر وعدم الاستقرار فى الأساس. على سبيل المثال، تعد تركيا وباكستان ومصر وأوغندا من بين الدول الأكثر استضافة للاجئين، حيث تستضيف مجتمعة ملايين النازحين . وتشترك العديد من هذه البلدان في الحدود مع مناطق الصراع، مما يجعلها الوجهات الأولى للفارين من الاضطهاد أو العنف. وعلى الرغم من محدودية الموارد، تتحمل هذه الدول المضيفة عبء توفير المأوى والرعاية الصحية والتعليم للاجئين الوافدين، وغالبًا ما يكون ذلك بمساعدات دولية غير كافية.
تُعاني الدول النامية المُضيفة من ضغوط اقتصادية واجتماعية كبيرة، إذ يفتقر الكثير منها إلى البنية التحتية والقدرة المالية اللازمة لاستيعاب أعداد كبيرة من النازحين. وغالبًا ما تكون مخيمات اللاجئين في مناطق مثل شرق أفريقيا والشرق الأوسط مكتظة وتفتقر إلى التمويل الكافي، مما يؤدي إلى ظروف معيشية متردية وفرص عمل محدودة . علاوة على ذلك، فإن طبيعة النزوح المطولة تعني أن اللاجئين غالبًا ما يبقون في البلدان المضيفة لسنوات أو حتى عقود دون مسارات اندماج رسمية . وبينما تساعد المنظمات الدولية والمساعدات الإنسانية في تخفيف بعض هذه الضغوط، إلا أن الاستجابة العالمية لا تزال غير كافية في توفير حلول طويلة الأجل لكل من النازحين والدول المضيفة. ويؤكد هذا الواقع الحاجة إلى مزيد من تقاسم الأعباء الدولية ومبادرات التنمية المستدامة لدعم المجتمعات التي تستضيف أعدادًا كبيرة من المهاجرين.
الملاحظة الثالثة: سهولة تقبُل الدول المضيفة لمهاجرين أو لاجئين يشبهون الخصائص السائدة لغالبية سكانها
تشير دراسات الهجرة إلى أن المجتمعات المضيفة تكون عمومًا أكثر تقبلاً للمهاجرين واللاجئين الذين يشتركون في خصائص لغوية أو دينية أو ثقافية مع غالبية السكان. ويتجلى هذا النمط بشكل خاص في البلدان التي تربطها روابط عرقية أو تاريخية بمجموعات مهاجرة محددة. على سبيل المثال، لطالما فضلت الدول الأوروبية المهاجرين من مستعمراتها السابقة نظرًا لمشاركة اللغات والألفة الثقافية . وبالمثل، كانت بولندا والمجر أكثر ترحيبًا باللاجئين الأوكرانيين بعد الغزو الروسي عام ٢٠٢٢ مقارنةً باستجاباتهما للاجئين من الشرق الأوسط أو أفريقيا، مما يعكس الانتماءات العرقية والدينية المشتركة . كما تُظهر دراسات الرأي العام أن المهاجرين الذين يُنظر إليهم على أنهم متشابهون ثقافيًا هم أكثر عرضة للنظر إليهم بإيجابية وقبولهم في المجتمعات المحلية .
كما تعكس السياسات الاقتصادية وسياسات التكامل هذه التحيزات، حيث تُطبّق العديد من الحكومات سياسات هجرة تفضيلية لمجموعات عرقية أو لغوية معينة. فعلى سبيل المثال، منحت ألمانيا تاريخيًا وصولًا أسهل لذوي الأصول الألمانية من أوروبا الشرقية. في المقابل، غالبًا ما يواجه المهاجرون من خلفيات ثقافية أو دينية مختلفة تدقيقًا أكبر وسياسات لجوء أكثر صرامة ومقاومة اجتماعية، حتى عندما تكون احتياجاتهم الإنسانية متشابهة. تؤثر سياسات الاستقبال الانتقائية هذه على اتجاهات الهجرة، وتعزز المعاملة غير المتكافئة للنازحين بناءً على التقارب الثقافي بدلاً من الاحتياجات الإنسانية. مثل هذه القضايا ليست جديدة في صياغة سياسات الهجرة في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث كان نظام الحصص ساريًا لسنوات عديدة . وتتطلب معالجة هذه التفاوتات تعزيز سياسات هجرة أكثر شمولاً، وتحدي المزاج العام الذي يُفضل مجموعات مهاجرة معينة على أخرى.
الملاحظة الرابعة: حالة سويسرا المثيرة للاهتمام
(أ) سويسرا والهجرة: من بين جميع الدول الصناعية المتقدمة الغنية في الغرب، تستوعب سويسرا أكبر عدد من المهاجرين بفارق كبير: 30% من إجمالي سكانها مولودون في الخارج، أي ما يقرب من ضعف نسبة الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية الكبرى، التي تبلغ حوالي 15%. فقط كندا والسويد تفوقان هذه الدول، ولكن حتى في هذه الحالة، لا يتجاوز عدد سكانها المولودين في الخارج حوالي 20% من سكانها .
نسبة المهاجرين إلى إجمالي السكان فى بعض الدول المختارة
الدول %
سويسرا 29.9
الولايات المتحدة الأمريكية 15.4
الدانمرك 12.5
ايسلندا 15.5
النرويج 16.1
المملكة المتحدة 14.1
أسبانيا 10.4
إيطاليا 15.2
بلجيكا 17.2
فرنسا 14.1
ألمانيا 15.7
السويد 20.0
كندا 21.3
لا تتمتع سويسرا بتاريخ طويل في التعامل مع المهاجرين فحسب، بل إنها أيضًا طرف فاعل بارز في حوكمة الهجرة الدولية، وقد تعاونت مع دول المنشأ والعبور لتنظيم حركات الهجرة الدولية .
لا شك أن جزءًا من هذا النجاح يعود إلى أن معظم المهاجرين ليسوا مختلفين ثقافيًا مثل المهاجرين من أفريقيا والشرق الأوسط، إذ يأتون في الغالب من إيطاليا وألمانيا وفرنسا، وجميعهم يجدون صدىً في البيئة الثقافية المتعددة الفريدة لسكان سويسرا.
ولا يقرن معظم الناس مباشرةً بين سويسرا ومعالجتها البارعة لقضايا الهجرة. ولكنها كذلك، حيث أوجدت نهجًا فريدًا ناجحًا بشكل ملحوظ لبناء الأمة وحوكمة الدولة. ينطلق هذا النهج من رؤية فريدة لما يُشكل الهوية الوطنية السويسرية.
(ب) يُعد النموذج السويسري للهوية الوطنية حالة شاذة في عالم غالبًا ما يختلط فيه مفهوم الوحدة بالتجانس. تزدهر سويسرا كاتحادٍ يضمّ مجتمعاتٍ لغويةً ودينيةً وعرقيةً متميزة، لا تربطها ثقافةٌ واحدةٌ مهيمنة، بل روحٌ سياسيةٌ ومدنيةٌ مشتركة. ولا يُمزّق تعدد اللغات في البلاد - الفرنسية والألمانية والإيطالية والرومانشية - تماسكها، بل يُعزّز شعورًا متعدد الطبقات بالانتماء. ويحافظ كل كانتون على تقاليده وقوانينه وأساليب حياته، مُعزّزًا بذلك هويةً محليةً راسخة، بينما لا تنبثق الهوية السويسرية الشاملة من الاندماج الثقافي، بل من التزامٍ مشتركٍ بالحياد والديمقراطية والمشاركة المدنية المباشرة. ولا يقبل السويسريون هذا التوازن الدقيق بين الاستقلال والوحدة فحسب، بل يتمسكون به كعنصر قوة، مما يسمح للاتحاد السويسري بالبقاء والازدهار بدون الصراعات الداخلية التي غالبا ما تصيب الدول الأكثر مركزية.
وقد وجد الدين أيضًا مكانًا له في إطار التعايش المُتفق عليه. تاريخيًا، كانت سويسرا ساحة معركة الإصلاح الديني، أما اليوم، فيتعايش الكاثوليك والبروتستانت مع مشهد ديني متنامٍ ومتنوع، ضمن نظام لامركزي يحترم الإيمان والعلمانية. لا يشترط هذا النموذج التماثل؛ بل يستوعب الاختلاف من خلال استقلالية الكانتونات في الشؤون الدينية، مما يضمن توافق السياسات مع المجتمعات المحلية مع الالتزام بالمبادئ الوطنية العامة للحرية الدينية والتسامح.
هذه المرونة تمنع الانقسامات الطائفية من التفاقم إلى صراعات وطنية، مما يعزز فكرة أن الهوية السويسرية لا تقوم على عقيدة واحدة، بل على عقد اجتماعي تعددي، وإن كان متناغمًا. والنتيجة هي أُمة لا يُدار فيها التنوع الديني فحسب، بل يُطبّق أيضًا، ضمن إطار مدني يُعطي الأولوية للمشاركة لا الانقسام.
لعل أبرز سمات الهوية السويسرية هي طبيعتها المزدوجة، حيث لا يُقوّض التعلق العميق بالهوية المحلية التضامن الوطني، بل يُعززه. فالمواطن السويسري هو في المقام الأول عضو في "كانتونه"، مُلتزم بعاداته وحكومته الفريدة، ومع ذلك يُدرك أيضًا هوية أوسع متجذرة في المؤسسات المشتركة، والحياد العسكري، والديمقراطية المباشرة. يُمَكِن هذا الانتماء المزدوج سويسرا من الحفاظ على استقرار ملحوظ على الرغم من تنوعها الثقافي. وبينما قد يتوقع المراقبون الخارجيون مجتمعًا مُجزأً، تُشير التجربة السويسرية إلى أن هذا التنوع، عند اقترانه باللامركزية السياسية والمشاركة المدنية، لا يُمثل بالضرورة نقطة ضعف. بل هو أساس الوحدة السويسرية ذاتها - أُمة لا تربطها سردية واحدة، بل اتفاق جماعي على احترام الاختلاف مع الحفاظ على القيم المشتركة. وهذا، من نواحٍ عديدة، هو جوهر ما يحاول النموذج الأوروبي محاكاته على نطاق قاري.
(ج) من النموذج السويسري إلى النموذج الأوروبي: في الواقع، تجلّت أصداء تلك الهوية المزدوجة في أبرز نجاح في القرن العشرين: الاتحاد الأوروبي.
لكن اليوم، تُعدّ الهجرة قضية رئيسية في معظم الدول الصناعية المتقدمة. حتى في الدول التي بُنيت على الهجرة (الولايات المتحدة الأمريكية، وكندا، وأستراليا)، أصبحت الهجرة قضية خلافية للغاية. بل إنها في الواقع "قضية خلافية" أساسية استغلها سياسيو اليمين المتطرف بمهارة في معظم الديمقراطيات الغربية، حيث يُعدّ الترويج للخوف والكراهية تجاه المهاجرين تجارة رائجة لدى السياسيين الشعبويين.
سادساً: المسـتقبل
1- الهجرة كظاهرة لا يمكن إيقافها
لا يمكن إيقاف الهجرة، وينبغي التعامل معها وتنظيمها بشكل أفضل من نواحٍ عديدة، بحيث تفوق فوائدها - في كل مكان - تكاليفها على كل من الدول المرسلة والمستقبلة. فبالنسبة للدول المرسلة، ستحافظ الإدارة الجيدة للعلاقات مع المهاجرين على روابط مفيدة مع جالية مهمة في الخارج، لا سيما في مجالات العلوم والتكنولوجيا والابتكار. كما أن السياسات الاقتصادية الرشيدة ستُعظّم فوائد التحويلات المالية.
ولكن يجب أن نعالج بشكل مباشر الخوف من "الآخر" وتأثيره على ما تعتبره الدولة المستقبلة قوة مدمرة للغاية يتم إدخالها في واقع ثقافي متجانس. وبينما يُعدّ قدرٌ من الاستيعاب (اللغة والأعراف الاجتماعية) أمرًا مرغوبًا فيه، يجب علينا أيضًا الاحتفاء بإثراء التنوع الثقافي.
2- التنوع الثقافي والإثراء
في الواقع، يُعدّ التنوع الثقافي والإثراء من أهمّ الفوائد التي تنجم عن الترحيب بالمهاجرين في مجتمعاتنا. تجلب الهجرة تقاليد ولغات ومأكولات وتعبيرات فنية جديدة، وكلها تُسهم في بناء مجتمع أكثر حيويةً وديناميكية. وقد أظهرت الأبحاث أن البيئات متعددة الثقافات تُشجّع الإبداع والابتكار من خلال تشجيع تبادل وجهات النظر المختلفة وأساليب حل المشكلات . بالإضافة إلى ذلك، ارتبط وجود مجموعات ثقافية متنوعة بزيادة الكفاءة الثقافية والقدرة على التكيف بين السكان المضيفين، مما يُمتن النسيج الاجتماعي العام. من خلال دمج مجتمعات المهاجرين، لا تحافظ المجتمعات على التراث العالمي فحسب، بل تُهيئ أيضًا فرصًا للتعلم المتبادل والنمو الشخصي.
اقتصاديًا، ثَبُتَ أن التنوع الثقافي يُحفّز التنمية الاقتصادية وريادة الأعمال. فكثيرًا ما يُضيف المهاجرون مهارات ومعارف متخصصة تُكمّل أسواق العمل المحلية، مع إدخال نماذج وممارسات أعمال جديدة . وقد وجدت الدراسات أن المدن ذات مستويات التنوع الثقافي الأعلى تميل إلى تحقيق إنتاجية اقتصادية وابتكار أكبر . يتجاوز هذا الإثراء الفوائد الاقتصادية المباشرة، إذ تُسهم مجتمعات المهاجرين في كثير من الأحيان في إنعاش الأحياء المتدهورة، وفتح مشاريع صغيرة، وتعزيز أسواق استهلاكية جديدة. كما تعمل التفاعلات الثقافية المتبادلة التي تنشأ في أماكن العمل والمجتمعات المتنوعة على تعزيز التواصل العالمي، وتُهيئ السكان المحليين للمنافسة في عالم مترابط بشكل متزايد.
اجتماعيًا، يُؤسس احتضان الهجرة مجتمعات أكثر شمولًا ومرونة من خلال تشجيع التفاهم والتضامن بين الثقافات. ويُقلل الانفتاح على ثقافات مختلفة من الأحكام المسبقة والصور النمطية، مما يُؤدي إلى مزيد من التماسك الاجتماعي . علاوة على ذلك، تُوضح الأمثلة التاريخية والمعاصرة أن المجتمعات التي تُدمِج المهاجرين بهِمَة تميل إلى تطوير قيم أكثر تسامحًا وتعددية . فتُصبح المدارس والأحياء وأماكن العمل مساحات أكثر ثراءً للحوار والتعلم والتعاون، مما يقوى المؤسسات الديمقراطية والمشاركة المدنية في نهاية المطاف. ومن خلال تقدير التنوع الثقافي كأصل لا كتحدٍّ، يُمكن للمجتمعات بناء مستقبل أكثر انسجامًا وابتكارًا يُفيد جميع أعضائها، سواءً كانوا مواطنين أو مهاجرين.
3- المدن العالمية
نحن نعيش الآن في دنيا متزايدة العولمة. فقد جعل الإنترنت والهواتف الذكية المحمولة كل واحد منا مواطنًا عالميًا يتمتع بالقدرة على الوصول إلى أفضل - وأسوأ - منتجات الثقافات الأخرى، تمامًا مثلما تخزن أسواقنا المحلية الآن وتبيع المنتجات من جميع أنحاء العالم. وفوائد هذا الواقع الجديد لا تُنكر. لكن حركة العولمة التي سادت النصف الأخير من القرن الماضي، ركّزت على التدفق الحر لرأس المال والسلع، دون العمالة. فقط في السوق المشتركة للاتحاد الأوروبي، شُدّد على وجوب التدفق الحر للعمالة عبر حدود الدول الأعضاء، التي تبنت في كثير من الحالات لوائح حدود الشنغن.
ومع ذلك، من الملاحظ أن العديد من مدننا أصبحت عالمية بشكل متزايد. ولا تُعتبر مدن مثل لندن ونيويورك وباريس عالمية فحسب بفضل تنوع الثقافات المنعكس بين سكانها، بل أيضًا لأنها تكيفت إلى حد كبير مع هذا الواقع، وأصبح ذلك بالنسبة للكثيرين مصدر فخر بثراء ثقافة مدينتهم.
مصطلح العالمية، المشتق من اليونانية، يعني مواطني الكون (أو العالم). أعتقد أنها حالة مرغوبة للغاية: فتتعلق أخلاقيات العالمية بالقيم المشتركة والالتزامات الأخلاقية النابعة من تقدير إنسانيتنا المشتركة. فرغم اختلاف الآراء الناقدة والآراء المتزنة حول الكوزموبوليتانية ، فأنا، في المجمل، مقتنعٌ بأن التفاعل الاجتماعي المفتوح الذي يُحدثه هذا الواقع الاجتماعي، لا يروج للتسامح مع غير الملتزمين والمبتكرين فحسب، بل يُسهّل أيضًا الحراك الاجتماعي، ويُغذي، بشكل عام، اقتصادًا أكثر ديناميكية .
من الواضح أن الهجرة، التي تجلب الجديد إلى الأطر الاجتماعية والاقتصادية الراسخة، تعد جزءٌ لا يتجزأ من كيفية نشوء المجتمعات الكوزموبوليتانية ورعايتها. وتتطلب الأسئلة التي يُثيرها هذا الواقع المتطور اهتمامًا من خلال سياسات وبرامج أخرى ذات صلة، مثل السياسات الوطنية تجاه الهجرة، ودمج اللاجئين والمهاجرين في النسيج الاجتماعي، والتى هي بحاجة إلى المناقشة أيضًا. وهذا مجالٌ غنيٌّ لمزيد من التأمل والاستكشاف.
الخـاتمـة
الهجرة ليست نعمة مطلقة ولا تحديًا لا يُقهر؛ بل هي واقعٌ دائمٌ يتطلب تفاعلاً مدروسًا. وبينما لا يمكن إنكار فوائدها - التي تتراوح بين الإنعاش الديمغرافي والديناميكية الاقتصادية - إلا أن تعقيدات الاندماج يجب أن تُواجَه بسياساتٍ موزونة ورحيمة. يكمن السبيل إلى مستقبلٍ متناغم في قبول الهجرة مع تشكيل هوية مدنية مشتركة، وضمان أن يكون التنوع قوةً جامعةً لا مصدرًا للانقسام. وبدلًا من الاستسلام للسرديات التي تحركها المخاوف، يمكن لمجتمعات نصف الكرة الشمالي أن تستلهم من نماذج مثل سويسرا، حيث لا تُمثل التعددية عبئًا بل ركيزةً للاستقرار. وبذلك، يمكن تحويل الهجرة من قضيةٍ خلافية إلى حافزٍ للازدهار والإثراء الاجتماعي.
-----------------------------
بقلم: د. اسماعيل سراج الدين
* مدير مكتبة الإسكندرية الأسبق
الحلقات السابقة