في مشهد بات يتكرر كل عام، لكن بخطورة متصاعدة، شهدت بعض المدارس المصرية، خصوصًا في الصف الثالث الإعدادي، موجات غير مبررة من العنف الطلابي عقب انتهاء الامتحانات. مشاهد فوضوية لا تمتّ بصلة إلى مؤسسة تعليمية؛ تكسير للديسكات، وخلع الأبواب، وتحطيم الشبابيك، وإلقاء صناديق القمامة الكبيرة من الطوابق العليا إلى فناء المدرسة، وصراخ منفلت، وألفاظ نابية، واعتداءات لفظية — وأحيانًا جسدية — على المعلمين والمعلمات، في مشهد يعبّر عن انهيار أخلاقي وتربوي جماعي، لا يُمكن اعتباره سلوكًا فرديًّا شاذًّا، بل ظاهرة متجذرة تحتاج إلى وقفة عميقة من الجميع.
الخطورة الأكبر أن هذا العنف لا يقتصر على ما بعد الامتحان، بل يمتد إلى أثنائه. كثير من الطلاب أصبحوا يعتبرون الغش "حقًّا مشروعًا"، ومن يعترض يُواجه بالسباب والتهديد والاستهزاء. يدخل بعضهم إلى اللجان بذهنية قتالية، لا تحمل أدنى احترام لقيمة الامتحان أو هيبة المعلّم. أما الأساليب المستخدمة في الغش فباتت أكثر وقاحة وتنظيمًا، مدعومة بثقافة أسرية لا ترى في التعليم إلا بوابة عبور لشهادة، ولا ترى في الغش جريمة أخلاقية، بل "ذكاءً اجتماعيًّا" من نوع ما.
المعلمات تحديدًا، هنّ الأكثر تعرضًا للانتهاك النفسي والرمزي، في ظل لغة منحطة من بعض الطلاب، وانعدام الحماية الإدارية، وتراجع صورة المعلم في الوعي الجمعي. بعض المعلمات يخرجن من لجان الامتحان منهكات نفسيًّا، مكسورات الوجدان، بعد تعرّضهن للتطاول والسخرية والإهانة أمام الطلاب وزملائهن.
لكن ما الذي أوصلنا إلى هذه الحافة الخطيرة؟
لا يمكن فهم الظاهرة دون الالتفات إلى الجذور الاجتماعية، والاقتصادية، والتربوية، وفي القلب منها ما تعانيه المدارس من عجز صارخ في أعداد المعلمين والمعلمات، وتكدّس شديد في الفصول، حيث تصل الكثافة إلى خمسين أو ستين طالبًا في غرفة واحدة، تجعل من العملية التعليمية مجرد محاولة يائسة للسيطرة على الجلبة، لا لتوصيل المعرفة أو بناء الإنسان.
أما طلاب الصف الثالث الإعدادي تحديدًا، فغالبًا ما يغيبون طوال العام الدراسي، ولا يظهرون إلا في الامتحانات، بعد أن رسّخت الدروس الخصوصية والأسرة والمجتمع لديهم قناعة بأن الحضور للمدرسة مضيعة للوقت، وأن "النجاح" - بمقاييسه الورقية - يمكن الحصول عليه دون أي التزام حقيقي. المدرسة بالنسبة لهؤلاء لم تعد تمثّل قيمة أو معنى، بل مجرد مبنى مؤقت يُؤدى فيه الامتحان كطقس بلا روح.
يزداد الأمر سوءًا مع غياب القدوة الحقيقية، وتحوّل كثير من الشباب إلى تقليد نماذج تافهة صنعتها "الترندات" و"التيك توك" و"اللايفات"، حيث البريق الزائف، والثراء السهل، والانحلال المغلف بعبارات "الشهرة" و"النجومية". لقد أصبحت رموز الوعي لدى المراهق في مكان آخر تمامًا، خارج حجرة الدراسة، وخارج منظومة القيم. ولم تعد المدرسة تمثّل له إلا فضاءً مقهورًا، فاقدًا للمعنى، ينتظر فقط أن يُخرِّج أوراق الامتحان، لا أن يُنتج إنسانًا.
ولعل الأخطر من كل هذا، هو غياب الإيمان بالمستقبل. هؤلاء الطلاب لا يرون في الغد سوى سراب من البطالة، والتهميش، واللا جدوى. لا يثقون في أن ما يتعلمونه سيحملهم إلى حياة أفضل، ولا يشعرون أن أحدًا يصغي إلى قلقهم العميق. إنهم أبناء بيئة ضبابية، لا تمنحهم خريطة للخروج، بل تتركهم في فراغ وجودي، فيملؤونه بالغضب، أو اللا مبالاة، أو الغش، أو العنف.
إنّ ما نشهده اليوم في بعض المدارس ليس مجرّد خلل سلوكي، بل أزمة شاملة في الرؤية التربوية والمجتمعية. فحين تفقد المدرسة معناها، وتسقط صورة المعلّم، وتُستبدل القدوة برموز التفاهة، وتختفي الثقة في الغد، لا غرابة أن يتحوّل الامتحان إلى مناسبة للانفجار، لا للتقييم.
المطلوب اليوم ليس فقط ضبطًا أمنيًّا أو إداريًّا، بل مراجعة شاملة لمفهوم التعليم ذاته. لا تعليم بلا تربية، ولا تربية بلا احترام، ولا احترام بلا قدوة، ولا قدوة بلا أفق حقيقي للمستقبل. علينا أن نعيد للمدرسة دورها، لا كمبنى، بل كفكرة. كفضاء لبناء الوعي، وترميم الضمير، وبناء الثقة في الغد. فبدون ذلك، لن يكون ما ننتظره في الامتحان القادم سوى موجة عنف أخرى.. أكثر مأساوية وفوضوية، وأبعد ما تكون عن التربوية والإنسانية.
أقترح أن تُؤدى امتحانات الصف الثالث الإعدادي في مدارسهم وأمام مدرسيهم، مثل ما يحدث مع صفوف النقل، ولا يتم توزيع المعلمين على لجان خارج مدارسهم؛ لأن كل مدرسة تجيد التعامل مع طلابها، وكل معلم يعرف مفاتيح التحكم في طلابه، ذلك لتجنب التبجح والإساءة وتعمد الوقاحة مع معلمين ومعلمات لا توجد بينهم أي صلة مسبقة، أو مواقف إنسانية، أو عرفان وامتنان، أو ردع من أي نوع.
------------------------------
بقلم: هاني منسي
* كاتب وناقد