05 - 06 - 2025

فيلسوف البساطة

فيلسوف البساطة

بعد قراءة كتاب الفيلسوف البريطاني - السويسري ألان دو بوتون "حياة أبسط " لأول مرة قلت : حسنا أفكار عميقة ومرتبة لكن لم يأتِ بجديد. نقد أخر للرأسمالية وتفكيك ذكي لتداعيات الحداثة الثقافية على عقول "الجماهير". لكن هذا الخطاب بات شائعا بالفعل. منذ منتصف الستينات التي شهدت ولادة مصطلح " ما بعد الحداثة" أصبح من الرائج لاي فيلسوف - بالذات في الغرب - أن يكتب في نقد الحداثة كي يشار اليه بالبنان و يتبوأ منزلة فكرية وأكاديمية مرموقة. لكن "حياة أبسط" أحدث أثرا عالميا رغم أنه لم يأت بجديد على مستوى النقد المؤسساتي البنيوي للحداثة.  لقد ساهمت بلاغة دو بوتون وتسلسلاته المنطقية وربطه العميق بين الظواهر الاجتماعية والاقتصادية والثقافية المختلفة لتفسير المظاهر المعقدة للعصر و النزوع الى حياة بسيطة واضحة وثرية، في إخراج كتاب ممتع وعميق. 

وبعد قراءة أخرى للكتاب ، أدركت أن الكتاب في الواقع قد أتى بجديد. فبينما سعى المابعد حداثيون لتفكيك الأبنية السياسية والفلسفية للحداثة من منظور جماعي، يسعى دو بوتون الى الانطلاق من والبدء بالفرد. فإذا استطاع الأفراد على الأقل التخفيف من هيمنة الحداثة على عقولهم  وحيواتهم، ربما استطاع المجتمع ككل ان يفعل نفس الشيء. لا يوجد هنا حديث عن سطوة او تغول لسلطة الدولة أو الشركات العملاقة إلا بقدر ما يساهم ذلك في معرفة المؤثرات، التي على الفرد تجاوزها للحصول على حياة أبسط تحرره من الضغوط النفسية الهائلة للحداثة. يتحدث دو بوتون في هذا الكتاب عن عدة أمور منها: الفن والعمارة  والكتب والمأكل والملبس. وطائفة من أمور أخرى. يستطيع هذ الفيلسوف أن يرشدك إلى أفكار تبدو منطقية جدا لكي تعيش حياة بسيطة. يتركك بعد ان تقرأ الكتاب متسائلا: كيف لم أفطن لذلك بنفسي. يقيم الان دو بوتون في لندن حيث يباشر مهامه كمدير مؤسس لجمعية "مدرسة الحياة" التي توفر إرشادات حول كيفية تحقيق حياة بسيطة ومثمرة.  ويظهر بشكل منتظم في التلفزيون البريطاني. من كتبه الأخرى "عزاءات الفلسفة" و "مقالات حول الحب" و " قلق السعي الى المكانة" و "عمارة السعادة" . بدأ بوتون التحضير لرسالة دكتوراة في الفلسفة من كنجز كولدج في لندن ولكن لم يتمها، مفضلا ان يكون محاضرا حرا خارج الاطار الاكاديمي الذي ابدى نقدا له كإطار مغلق منفصل عن الاشتباك بالحياة اليومية. 

علاقات أبسط

يبدأ دو بوتون هذا الباب موضحا أن النزوع إلي البساطة في القرن الواحد والعشرين ما هو إلا رد فعل على مستوى التعقيد والتركيب الذي وصلت إليه البشرية في هذا القرن. وبالتالي أصبحت البساطة تحتل مركز الرؤية المعاصرة لماهية السعادة عند الكثير من الناس. المفارقة عند دو بوتون أنه بينما يدرك أغلبنا تلك الحقيقة، فان القلة فقط هي التي تتخذ خطوات حقيقية شجاعة نحو تحقيق حياة أبسط.  

يبدأ دو بوتون كتابه بالحديث في الباب الأول عن كيفية الحفاظ على علاقات أبسط. فيقرر أنه علينا تعريف الشخص الذي يحيا ببساطة أو الذي اختار أن يحيا ببساطة لان ذلك سيساعدنا في اختيار علاقات أبسط وأكثر تحققا. فيُعرف الشخص البسيط بأنه الشخص "الذي يتحدث بوضوح عما يريده و عن ما يشكل حقيقته أو هويته" وينطلق من ذلك ليؤكد ان الشخص البسيط ليس بالشخص الساذج أو الجاهل و لكنه شخص جذاب ومحبوب، لأن دواخله دائما واضحة وغير غامضة ولا يقول عكس ما يشعر في غالبية الأوقات. ولكن للأسف فإن الغالبية في هذا العصر لا تنطبق عليها هذه الأوصاف. وهنا يرتدي دو بوتون رداء المحلل النفسي ويرجع غموض الشخصية لمرحلة الطفولة، حيث يرتكب الكثير من الآباء و الأمهات خطايا جسيمة في التعامل مع رغبات أطفالهم. يرى دو بوتون أن الخوف من مصارحة الأخرين برغباتنا يعود الى مرحلة الطفولة، من حيث تعامل الآباء والأمهات مع رغبات أطفالهم بالسخرية أو الكذب أو العنف. 

ينتقل الكاتب بعد ذلك إلى الحديث عن العلاقات العاطفية وأهميةالوضوح والبساطة في استمراراها ونجاحها في مراحلها المختلفة. وفي الواقع جاء حديثه هنا ملائما لكل الثقافات، حيث جوهر العاطفة بين الجنسين واحد وكذلك المبادئ التي تحدث عنها. ويحذر الكاتب من أن من أقوى المغريات حين نلتقي بشخص يعجبنا في إطار علاقة عاطفية، هي ان نبدي اتفاقا في الرأي معه في كل ميوله والأشياء التي يحبها. وهنا يقول دو بوتون أن هذا خطأ قاتل، لأن الوقت كفيل بأن يظهر ميولنا ورغباتنا الحقيقية المختلفة مما سوف يعده الطرف الآخر خداعا. وغالبا ما يمارس الطرفان نفس آليات الخداع مما سوف يغلف العلاقة بكم هائل من النفاق. 

ثم ينتقل في الفصل الثاني للحديث عن علاقتنا بعائلاتنا وآبائنا. من المهم هنا التعامل بحساسية ورفق، خاصة مع الآباء والأمهات. وهنا يجب الانتباهلآثار مرحلة الطفولة وكيف نتعلم منها دروسا مختلفة. فمهما كانت أخطاء الآباء والأمهات فلا مبرر للاستمرار بالخضوع لها، خاصة وأن الشخص البالغ يستطيع أن يعي جيدا المستويات العميقة التي تمارس هذه الأخطاء التأثير من خلالها. ومن المهم حسم ما أسماه دو بوتون بإلقاء اللوم المتبادل بين الآباء والأبناء برفق وحساسية تسمح لنا بالتحرر النفسي المطلوب. 

حياة اجتماعية أبسط

في هذا الباب يفكك دو بوتون عدة فرضيات خاطئة لدى أغلبنا عن الحياة الاجتماعية النشطة. وقبل أن يفعل ذلك يدعو للتحرر من سطوة ما "يراه الآخرون عنا"، من المهم جدا التحرر من هذه السطوة بدءا من ضغط الأقران في المدرسة وحتى المواصفات و الميول التي نظن أنها يجب أن تتوفر فينا لنليق بالانتماء لطبقة ما أو فئة معينة. 

يظن البعض أنه كلما زاد عدد الأصدقاء كلما زادت صفة الشخص بأنه "محبوب" أو "اجتماعي" . يتحدى بوتون هذه الفكرة مركزا على الكيف وليس الكم. فهو يرى أن الصداقة الحقيقية عملة نادرة. وربما يذكرنا هذا برسالة " الصداقة و الصديق" لأبي حيان التوحيدي. الصديق الحقيقي في نظر دو بوتون هو الذي يمكن أن تتحرر معه نفسيا بالحديث الصادق عن مخاوفك وآلامك. وهذا يندر وجوده أصلا. يرى دو بوتون أنه بدلا من إضاعة الوقت في مناسبات اجتماعية عديدة حيث تضطر الى الايماء بالموافقة الزائفة  على كلام أناس تلتقي بهم لأول مرة، فإنه من الأجدى قضاء وقت مع صديق حقيقي تستطيع ان تفكر في ذاتك بصوت عال معه. وينتقل من ذلك إلى الحديث عن الوقوع تحت سطوة مفهوم "الخروج من البيت كثيرا" . يرى دو بوتون أن سطوة هذه الفكرة تشتتنا. فأحيانا كثيرة يكون البقاء في البيت أكثر فائدة من حيث القدرة على تجميع شتات الذهن أو ترتيب البيت لجعله أكثر ملائمة للحياة البسيطة. 

أسلوب حياة أبسط

يتحدث هنا الكاتب عن نماذج تاريخية لشخصيات تخلت طواعية عن الحياة في قصر واسع مليء بعوامل الرفاهية، لصالح حياة بسيطة في كوخ في أعلى الجبل أو بين الغابات. دو بوتون هنا لا بد وأن يكون أكثر واقعية إذ لا يدعونا جميعا للحياة في أكواخ بسيطة. إنما هو جاء بتلك الأمثلة للتدليل على أن الحياة البسيطة لا تعني التعاسة بالضرورة وإنما قد تفضي إلى سعادة أكثر. وقد أتى بعدة أمثلة في هذا الفصل من الشرق والغرب ليدلل على أن هؤلاء الناس وجدوا سعادة أكثر في نبذ ثرواتهم والاندماج في حياة بسيطة في كنف الطبيعة. ويرتبط بوهم البيت الفاخر، وهم أسماه دو بوتون "الإصرار على الحياة في العاصمة والمدن الكبيرة." لأن الحياة من وجهة نظر دو بوتون قد تكون أكثر ثراء من الناحية الاجتماعية والجمالية من الحياة في العاصمة. ويرى الكثيرون أن الحياة في العاصمة هي أن تكون في قلب الأحداث وهذا في نظر الكاتب وهم من الأوهام. 

ثم يعرج الكاتب على موضوع التملك المادي للأشياء. فيفرق بين "المادية السيئة" و "المادية الحسنة" أما الأولى فهي تساوي نزعة إرضاء التملك لكل ما هو حديث. وهي دائرة جهنمية لا تنتهي. أما "المادية الحسنة" فهي حب إبقاء الأشياء التي تحمل معنى خاصا لنا، أو ذات فائدة مباشرة في جعل حيواتنا أفضل بغض النظر قديمة كانت أو حديثة. و بذلك تتحقق بساطة التملك.

وفي فصل بديع بعنوان " كيف تقرأ كتبا أقل" يرى الكاتب أن المظهرية المعرفية أصبحت تقاس بعدد الكتب الهائل التي ٌقرأها المثقف. فهذا المثقف ما أن يسمع عن كتاب جديد إلا و يسارع بإضافته إلى مكتبته.  

يرى دو بوتون أن قراءة واقتناء عدد هائل من الكتب هو أمر يزاوج بين حب الظهور وحب التملك. يؤكد دو بوتون من خلال عدة أمثلة أن القدماء من المفكرين لم يضعوا انفسهم تحت ذلك الضغط، وان مفكري العصر القبل الحديث لم يهتموا بعدد الكتب التي يقراها المرء لانهم كانوا مهتمين بسؤال اخر تتجنبه الحداثة: ما هو الهدف من القراءة؟ و يضرب دو بو تون مثلا بالعصور الماقبل الحديثة في المسيحية و الإسلام حيث كان هدف القراء "تحقيق القداسة". أيضا حين تحتفظ بالكتب المهمة فقط، تستطيع إعادة قراءة بعض الكتب مرة أخرى. 

في الواقع الكتاب محمل بأمثلة كثيرة ومواضيع شتى. و لكن لعلي أبرزت أهم ما فيه وهي الدعوة الى مواجهة تعقيدات العصر و ضغوطه بالنزوع إلى حياة أكثر بساطة، ومن ثم أكثر صدقا و تحررا من نزعات المظهرية والمادية والتملك. 
---------------------------
بقلم: محمد الأنصاري

مقالات اخرى للكاتب

فيلسوف البساطة