13 - 06 - 2025

أحمد مجاهد: شعر العامية المصرية حداثة تتخطى حاجز الازدواج اللغوي

أحمد مجاهد: شعر العامية المصرية حداثة تتخطى حاجز الازدواج اللغوي

* برهنوا على أن لغتهم قادرة على حمل الصور والرؤى الشعرية العالمية
* شعراء العامية طوعوا اللغة الدارجة لكتابة الأفكار الفلسفية العميقة      

قدَّم شعراء العامية المصرية منتجًا إبداعيًا فذًّا، يلامس في نماذجه العليا ضفاف الشعرية العالمية الحديثة، ويقف كتفًا بكتف مع شعر الفصحى. عبروا من خلالها عن قضايا ورؤى فلسفية كان يُعْتَقد أن اللهجات المحلية لا تستطيع أن تحملها، مفجرين طاقات من الجمال اللغوي عبر لسان الشعب، وكانوا الأقدر على التعبير عن مشاعره، وأحلامه، وطموحاته. ذلك ما يثبته كتاب «جماليات شعر العامية بين الإبداع والتلقي» (الهيئة العامة لقصور الثقافة) للعلم الكبير أحمد مجاهد، الذي يبدؤه بإثارة قضية مهمة، تتعلق بالتهميش النقدي على المستويين الأكاديمي والإبداعي، لشعر العامية المصرية، رغم منجزه الإبداعي الغزير، والمهم، والمتواصل، لأكثر من قرن، عبر مجموعة من الأجيال، مُرْجِعًا ذلك التهميش إلى أن رواد الموجة الأولى والثانية، على الأقل، من شعراء العامية الذين انتموا إلى اليسار السياسي، وكثير منهم تعرض للاعتقال لسنوات، كما أن مؤسسات النشر الرسمية، والمجلات الثقافية والأكاديمية، تضافرت مع موقف الدولة السياسي منهم؛ فمنعت نشر أعمالهم. ويمكن إضافة سبب ثالث عام، يتعلق بضعف الحركة النقدية بشكل عام، وعدم قدرتها على مواكبة إبداع المبدعين، سواء كان ذلك في الشعر، أو السرد، أو المسرح، أو السينما.

يقف مجاهد، في كتابه، أمام منتج مجموعة من شعراء العامية المصرية الكبار، الذين فرضوا أسماءهم على الساحة الأدبية العربية؛ من بيرم التونسي، وفؤاد حداد، وصلاح جاهين، وعبدالرحمن الأبنودي، وأحمد فؤاد نجم، وسيد حجاب، وفؤاد قاعود، وزين العابدين فؤاد، وتتفاوت مساحة تناوله لإبداع كل شاعر منهم داخل الكتاب.

الأيديولوجيا

يشترك شعراء العامية المصرية في مجموعة من الخصائص؛ من بينها: الحس السياسي العالي، والثورية والتحريض ضد الظلم والفساد، والوقوف في صف الشعب، فكثير من هؤلاء الشعراء تعرضوا للاعتقال، مثل: فؤاد حداد الذي اعتقل مرتين، وكذلك زين العابدين فؤاد، وأحمد فؤاد نجم، ومن لم يسجن منهم عانى من التضييقات الأمنية، والنفي خارج البلاد، مثل: بيرم التونسي، فقد كانت الحكومات تشعر بخطورة أشعارهم؛ لسرعة سريانها على الألسن، مما يشكل رأيًا عامًّا رافضًا لبعض القرارات السياسية، فالجانب الثوري، والأيديولوجي، والاشتباك مع الشأن العام، واضح في منتجهم الشعري، فاختيار هؤلاء الشعراء للعامية كان هدفه الأساسي رغبتهم في إيصال رسائلهم إلى العامة؛ لذا كتبوا بلغتهم من أجل توعيتهم.

الموروث الشعبي

ونتيجة لاشتباك شعراء العامية مع الشأن العام؛ فإنهم اشتبكوا مع الموروث الشعبي المصري، فكانوا الأكثر تأثرًا به ومجاراة له في بعض الأحيان، فكثير من النقاد يعتبرون بيرم التونسي حلقة الوصل بين الزجل وبين شعر العامية الحديث، فقد عرفت مصر الكثير من الزَّجَّالة؛ منهم على سبيل المثال: محمد عثمان جلال (1828: 1889) الذي ترجم مسرحيات موليير بالزجل المصري، وكذلك تراجيديات راسين، فقد كان شعر بيرم في جزء كبير منه، له طابع زجلي؛ بحكم نشأته في الأحياء الشعبية، لكنه منحه قبسًا من الشعرية الحديثة، التي تتجلى في أغانيه، خاصة تلك التي غنتها له أم كلثوم، وكان اللبنة الأولى في جدار شعراء العامية المصرية الكبار، فيصفه فؤاد حداد في إحدى قصائده: «هو اللي سابق في مجال الميدان.. هو اللي رافع للحواري ديوان.. هو اللي قايل قبل هذا الآوان.. الفلاحين والشعب عين الأعيان» فيعترف له في هذا المقطع بالسبق في مجال القصيدة العامية، وأنه كان لسان الشعب، ولم يكن لسان الحكام في شعره.

العديد

وكما استفاد شعراء العامية من الزجل الشعبي للتعبير عن هموم الشعب، استفادوا أيضًا من مجموعة من الأشكال الشعرية الشعبية؛ مثل: «العديد» أي المربعات التي تقال في رثاء الميت، ومن نماذجه الشعبية: «بين اللحود لا بير ولا خلوة.. ولا ساقية تتسبح الحلوه.. بين اللحود لا بير ولا جنينة.. ولا ساقية تتسبح الزينة» فعلى غراره رثى صلاح جاهين بيرم التونسي «مين اللي مات يا شب با أبو دموع.. قالت عروس الشعر للموجوع.. مين اللي مات يا شب قل لي يا أخويا.. قالت عروس الشعر ليكون أبويا.. أنا قلت أبونا كلنا يا صبية». يرثي صلاح جاهين بيرم بوصفه أبا لشعراء العامية كلهم. 

ويستفيد من فن العديد، الشاعر زين العابدين فؤاد، في رثاء الجندي المصري «سليمان خاطر»، متبعًا تقاليد العديد الشعبي قائلًا: «يا وردة نابتة في حجر صوان.. النيل كساها بحمرة الفيضان.. والنيل يفيض بالخلف يا سليمان.. من سينا يجري يرتمي في أسوان».

السير الشعبية

لم يتوقف اتكاء شعراء العامية على أشكال الشعر الشعبية المعروفة في مصر؛ بل امتد إلى استدعاء أبطال السير، وحكايات ألف ليلة وليلة، والحكايات الشعبية، ويظهر ذلك جليًّا في أعمال شعراء العامية، فيقول أحمد مجاهد عن تجربة الأبنودي: «لعل ولع عبدالرحمن الأبنودي بالسيرة الهلالية، هو ما دفعه إلى كتابة حوارياته في ديوان «جوابات حراجي القط» 1969م «وبعد التحية والسلام» 1975م، وذلك قبل الانتقال إلى كتابة دواوين القصيدة الواحدة التي تشبه الملاحم؛ مثل: وجوه على الشط 1975م، الموت على الأسفلت 1988م، الاستعمار العربي 1991، إلى أن ختم مسيرته الشعرية بديوان «مربعات» في 2014م، الذي يحاكي فيه بنية مربعات السير الهلالية، كما صاغها الشاعر الشعبي الشهير جابر أبو حسين».

الفاجومي

ويتجلى أثر التراث الشعبي في شعر أحمد فؤاد نجم، الذي يلقبه مجاهد باسم «سندباد التراث الشعبي»، ويراه الامتداد الحقيقي للمعلم الأول بيرم التونسي، والأكثر التصاقًا بمشروعه من أي شاعر عامية مصري آخر، يشبهه في سلاسته اللغوية، وحسه الفكاهي، وفي رؤيته الناقدة للمجتمع والسياسة، فقد تربى منذ الصغر في بيئته الشعبية على رواة السير الشعبية، والمواويل، والموالد، وغيرها من المظاهر، فقد كان مولعًا في شعره بهذا التراث، فيصف حراس معتقله «واقفين بالقيد.. كتفوا عنتر وأبو زيد.. ويهينوا دياب» صانعًا إسقاطًا بينه وبين أبطال السيرة الهلالية، وكيف جرى التنكيل بهم في هذا الزمان.

المسرح الشعري العامي

وإذا ما انتقلنا إلى المسرح الشعري العامي في مصر، الذي قام على أكتاف هؤلاء الشعراء، بداية من بيرم التونسي، ومرروًا بفؤاد حداد ومتولي عبداللطيف، ونجيب سرور، وصولًا إلى صلاح جاهين، سنجد أن التراث الشعبي هو الركيزة الأساسية التي قام عليها مسرح هؤلاء الشعري، فقد نهل بيرم من السيرة الهلالية في مسرحية «عزيزة ويونس»، ومن اللغة الشعبية السوقية بلغتها القارحة في مسرحية «شهرزاد»، ومن أجواء ألف ليلة وليلة في مسرحية «ليلة من ألف ليلة»، ومن الحكاية الشعبية أخذ حداد وصاحبه عبداللطيف مسرحيتهما «الشاطر حسن»، وعلى قصة «ياسين وبهية» صنع نجيب سرور رباعيته المسرحية «ياسين وبهية، آه يا ليل يا قمر، قولوا لعين الشمس، يا بهية وخبريني»، واعتمدت مسرحية «ليلى يا ليلى» لصلاح جاهين على قصة مجنون ليلى. ولم يكن توجه شعراء العامية إلى التراث الشعبي (سواء في شعرهم أو مسرحهم) ببعيد عن سبب اختيارهم العامية للكتابة؛ وهو البعد التوعوي للناس، من خلال أمثلة ونماذج يعرفونها، وليست غريبة عنهم، وللانحياز والكشف عن عبقرية السليقة الشعبية، التي أبدعت تلك الحكايات السردية، والفنون القولية الشفاهية المختلفة. كما أن بعضهم كان يرفض الفصل بين العامية والفصحى، مثلما كان يقول فؤاد قاعود: «لقد آن لنا أن نتخلص من هذا الخطأ الشائع والوهم الباطل، فليس هناك شيء بهذا الاسم - أي اللغة العامية -، هناك لغة واحدة هي العربية، وليست لهجتنا إلا قراءة مصرية للعربية».

الرؤية الفلسفية

وتأثر شعراء العامية أيضًا بالتراث العربي الفصيح، والتراث العالمي شعره ونثره، بل مع ظهور فؤاد حداد أخذت القصيدة العامية شكلًا مغايرًا عما قبل، من تطويعها لكتابة الأفكار الفلسفية العميقة، مثلما هو الحال في قصائده، وكذلك في بعض رباعيات صلاح جاهين إذ يقول: «جالك أوان ووقفت موقف وجود.. يا تجود بده يا قلبي يا بده تجود.. ما حد يقدر يبقى على كل شيء.. مع إن عجبي كل شيء موجود»، مربع يتناول قضية الوجود بمعناه الفلسفي. ويشير إلى عطيل شكسبير، في قصيدة أخرى، فيقول: «عنتر من الغرب أسمر يندهوله عطيل.. ضلل على ديدمونة وشالها في عينه شيل». وتلك الخصيصة لازمت كثيرًا من شعراء العامية، الذين يدرسهم كتاب «جماليات شعراء العامية»، ولمسها صلاح جاهين في شعر فؤاد قاعود، فقال عنه «بأنه تأثر بالمتنبي، فكثر في شعره الفخر والتعالي، وتأثر بالمهجريين فنحا نحوهم في الشعر الفكري الذي يناقش الفلسفة، وتأثر بعصره فأصبح واحدًا من الذين يعملون على أن تصبح العامية لغة أدبية، تستطيع أن تحمل في أحشائها كل الصور والرؤى الشعرية العالمية»

 فقد كان قاعود مغرمًا بالفلسفة فلا يجد غضاضة في إعادة صياغة أبيات أبي العلاء المعري، حيث يقول: «زغاريد دي ولا صوات ما دلوني.. ونزلت أجري بهمه وعناية.. لقتني ناسي همه بعتوني.. لجل الحانوتي ولا للداية» ذلك المقطع الذي يحيل إلى قول أبي العلاء:

غير مجدٍ في ملتي واعتقادي ...   نوح باكٍ ولا ترنــــم شـــــــادي

وشبيه صوت النعي إذا قيس ... بصوت البشير في كل نادي

ويحيل قوله «في مدخل الشتا ... تتزاحم الصور على سن القلم ... كأنها طيور... أهش منها اللي أهشه خارج الورق ... واللي ارتطم في القلب يخلق سطور» إلى ما قاله امرؤ القيس: 

أذود القوافي عني ذيادا ... ذياد غلام جريء جوادا

فلما كثـــــرن وعنــيــــــنــه  ... تخيّــــر منهـــن ستًّا جيــادا

فأعزل مرجانها جانبًا ... وآخذ من درها المستجادا

نفس الحالة الشعورية مر بها الشاعران، رغم تباعد القرون، حول تكالب الأفكار والقصائد في عقل الشاعر، ولا يختار في النهاية سوى ما يراه جيّدًا منها.

شعراء الفصحى

وإذا كان شعراء العامية تأثروا بشعراء الفصحى، فنجد أن العكس قد حدث أيضًا، فيرصد مجاهد في كتابه مجموعة من المعاني والصور الشعرية، التي سبق فيها شعراء العامية أقرانهم من شعراء الفصحى، فمن الأمور التي تحسب للدكتور مجاهد في هذا الكتاب، هي قدرته على التقاط التناص بين الشعراء وبعضهم البعض، فصحى وعامية، قديمهم وحديثهم، سواء كان عربيًّا أو غربيًّا.

 مثل: تأثير سيد حجاب في قصيدته «تنويعات على الساكسفون» التي يصف فيها الفلاحين الزنوج في أمريكا الجنوبية، التي يقول فيها: «مدينة الأسفلت والحديد، باتوه أنا، بتصبح المدينة غابة، مين يحوش..»، مع تجربة أحمد عبدالمعطي حجازي، وقصائده في مرحلة صدمة المدينة، وخاصة قصيدة «لا أحد»، وكذلك الأمر يتكرر بين قصيدة «تنويعات على الجيتار» التي يذكر فيها لوركا، وما جاء في قصيدة حجازي «جيرنيكا أو الساعة الخامسة»، وأيضًا يلمح هذا تأثير حجاب في شعر أمل دنقل. بل يمد مجاهد تأثير شعراء العامية إلى أبعد من ذلك، مثل: تأثر أحمد شوقي في قصائده العامية، بشعر بديع خيري وبيرم التونسي، فقد أعجب أمير الشعراء أحمد شوقي بعامية بيرم، فقال: «لا أخشى على اللغة العربية الفصحى إلا من أزجال بيرم التونسي التي يكتبها بالعامية»، وعمل من الأغاني والمواويل، كان أولها عام 1924م «قلبي غدر بي، على قلبي استعنت بالله»، وفي 1925 كتب مواله «سيد القمر في سماه والبان في عوده»، كتب أيضًا مجموعة من الأغاني مثل: «دار البشاير مجلسنا» التي لحنها وغناها محمد عبدالوهاب، أو أغنيته «الليل بدموعه جاني» التي كتبها عام 1927م، وأغنية «بلبل حيران»، وأغنية «في الليل لما خلي»، و«النيل نجاشي».
--------------------
تقرير - د. عبدالكريم الحجراوي
من المشهد الأسبوعية