حين تنطفئ شمعة كبرى في سماء المسرح، لا يخفت النور تمامًا، بل يظلّ يحوم في الذاكرة، متوهجًا بما تركته من دفء وضوء ورنين. هذا هو حال المسرح المصري والعربي اليوم، وهو يودّع الفنانة القديرة سميحة أيوب، التي لم تكن مجرد ممثلة، بل صوتًا زلزاليًّا من لحم ونور، جسّدت على مدى أكثر من سبعة عقود حضورًا مسرحيًّا لا يُضاهى، مزجت فيه بين صرامة الإلقاء وشفافية الإحساس، وبين جسدٍ مشدود كوتر وصوتٍ كأنه خارج من صدر الزمن.
وُلدت سميحة أيوب في مارس 1932، في حي شبرا بالقاهرة، لكنها سرعان ما ولدت ثانيةً على خشبة المسرح، حين دخلته طفلة عاشقة، وخرجت منه سيّدةً متوجة. تتلمذت على يد زكي طليمات، ولمعت سريعًا، فكانت من جيلٍ نادر جمع بين التكوين الأكاديمي العميق والانتماء الشعبي للشارع المصري. لم تشتغل بالفن كما يُشتغل بالمهنة، بل كما يُعاش قدرًا ومصيرًا. كانت كل دور تلعبه نوعًا من إعادة تشكّلها، كأنها تتقمص الدور لا بموهبة الممثل وحده، بل بشراهة الوجودي الذي يجد خلاصه في لعب الحياة على الخشبة.
عرفتها المسارح في أدوار متنوّعة، من "رابعة العدوية" إلى "سكة السلامة"، من أعمال نجيب محفوظ وسعد الدين وهبة ويوسف إدريس إلى برتولد بريخت وتوفيق الحكيم. كانت تمشي على المسرح كأنها تكتب بخطى الجسد، وكانت عيناها كفيلتين بإنطاق صمت الشخصية، فيما بقي صوتها، ذلك الصوت البرونزي الخشن، تجليًا لغضب قديم وكبرياء ناعم. كانت تنتمي إلى مدرسة الأداء "المقموع بالعظمة"، حيث لا تبكي الشخصية كثيرًا، ولكن يتشقق الصوت ويتصلّب الجسد، وتنبثق الكارثة من صمتٍ يسبق الانفجار.
كان المسرح بالنسبة لسميحة أيوب وطنًا داخليًّا، لا تغادره، حتى حين اقتربت السينما منها أو اقتربت هي من الشاشة. بقيت مؤمنة أن الخشبة هي المكان الأصدق، حيث تتلاقى الحقيقة والمجاز، والواقع والتمثيل، في لحظة توتر كونية. ومن هناك، قدّمت ما يقرب من 170 عملًا مسرحيًّا، كانت خلالها دومًا في صدارة المشهد، لا بالنجومية السطحية، بل بالحضور الذي يفرضه الموهوبون الكبار دون أن يطلبوه.
وقد لا يعرف الكثيرون أن الفيلسوف الوجودي جان بول سارتر، زار القاهرة في ستينيات القرن الماضي، وحرص على أن يشاهد واحدة من مسرحيات سميحة أيوب، وقد جلس في مقدمة الصفوف، يتابع أداءها بانتباهٍ المفكر لا الفضولي. وحين انتهى العرض، وقف سارتر يُصفّق لها بحرارة، وقال ما معناه: "لم أكن أتوقع أن أرى ممثلة بهذه الطاقة على الخشبة خارج باريس." كان ذلك إقرارًا عالميًّا بأن المسرح المصري لا يملك مجرد ممثلين، بل طاقات إنسانية وجمالية قادرة على مخاطبة ضمير العالم.
لم تكن سميحة أيوب فنانة متعددة المواهب فحسب، بل كانت صاحبة موقف. وقفت دائمًا بجوار قضايا الفن والثقافة، ودافعت عن المسرح كمؤسسة وكمستقبل. حين أرادت الجهات الرسمية إزالة المسرح العائم، خرجت من عزلتها الصحية تناشد الدولة قائلة: "المسرح لقمة عيش للشعب، وتاريخ لا يجوز هدمه". لم تكن كلماتها عابرة، بل كانت صادرة من وعيٍ أن الفن هو الذاكرة الحيّة للأمم، وأن تهميشه أو إهماله هو ضربٌ من إعدام الروح الوطنية.
وفي مواقفها الوطنية والإنسانية، كانت حاضرة دومًا. تبنّت مشاريع لرعاية الفنانين الكبار، وشاركت في لجان تحكيم، وفي أنشطة ثقافية توعوية، كما كانت شخصية مؤثرة في النقاش العام حول قضايا المرأة والفن والحرية. وكان حبها لمصر حبًّا غير استعراضي، لا يحتاج إلى إعلام أو ضجيج، بل يُترجم في الفعل اليومي والالتزام الصارم بكل ما يخدم البلاد ثقافيًّا وفنيًّا.
أما حضورها الجسدي فكان وحده لغة. وجهها الذي احتفظ طوال حياتها بملامح الصعيدية الوقورة، وعيناها الواسعتان المتأملتان، وصوتها الذي يمكن أن يُقطع به الصمت كالسيف أو يُغلف به الألم كالقطن، كل ذلك جعل منها ممثلة لا يمكن نسيانها، ولا استنساخها. لم تكن مجرد امرأة على المسرح، بل كانت المسرح نفسه، مُمثّلاً في هيئة جسدٍ بشريٍ يحتمل كل المتناقضات: الأمومة والتمرّد، العشق والحكمة، الهشاشة والانفجار.
بوفاتها، تطوى صفحة من أعظم صفحات المسرح المصري والعربي. ولكن أثرها باقٍ، يشتعل في تسجيلات العروض، وفي أذهان من شاهدوها، وفي أرواح تلاميذها، وفي كل لحظة فنية نبحث فيها عن معنى عميق للتمثيل الصادق. لقد كانت سميحة أيوب تجسيدًا للفن في أرقى صوره، مزيجًا من تقنيات الأداء وحرارة الموقف، من انضباط المهنة وتمرد الروح.
هكذا ترحل سيدة المسرح، لا في صمت، بل في جلبة تصفيق طويل ممتد في قلب كل من عرفها، وقرأ ملامحها، واستنشق نَفَس فنها. لا تُودّع سميحة أيوب كفنانة فحسب، بل كجزء من هوية المسرح المصري، كإحدى دعائمه الكبرى، وكامرأةٍ قالت في خشبة الحياة ما لم يستطع كثيرون قوله، ومضت شامخة، كما كانت دومًا.
--------------------------
بقلم: هاني منسي
* كاتب وناقد