05 - 06 - 2025

صلاح صالح .. وفن ( الإتيكيت ) !

صلاح صالح .. وفن ( الإتيكيت ) !

ساعده مولدُه في بيتٍ كان مقصد القاصي والداني من ذوي الحاجات من أبناء القرية لأبٍ كان عضوا بالاتحاد الاشتراكي ثم مسئولا بالمجلس الشعبي المحلي لمدينة طوخ، في أن ينشأ مُحبًا للخير، والسعي بدأب في تلبية مصالح المُحتاج دون أن يُطلَب منه.

في دوار سيدي (العيسوي)، الذي كثيرا ما كانت تُعقَد فيه المجالسُ العرفية لفضّ النزاعات والخصومات، اكتسب صلاحُ الحكمةَ، وأدبَ الحوار، وتعلُّم فن المنطق وإقامة الحجة، والقدرة علي الإقناع، وصدق القائل:

وينشأُ ناشئُ الفتيان فينا علي ما كان عوده أبوه.

امتاز الطفلُ صلاح بنبوغٍ شهد به أقرانُه، وعُرف بثقته بنفسه واعتداده برأيه منذ نعومة أظفاره.

كانت حياةُ والده الحاج صالح عيسوي، التي توزعت بين عمله في الحقل نهارا من أجل لقمة العيش، وحضور المجالس العرفية ليلا، هي المدرسة التي تربي فيها صلاح، وتعلم في فصولها دروسَه الأولي، التي من أهمها أن قضاء مصلحة الناس فرضُ عين لا يمكن تأخيرُه، وأنّ الحياة كفاحٌ لا يعرفُ الكسل، وأنّ عرقَ الجبين في كلّ ما هو نافعٌ ومُفيد هو اللذة الحقيقية، وأنّ مساعدة الغير هي السعادة التي يجهلُها من حُرموا نعمةَ العطاء .

داوم الفتي تفوقه الدراسي، حيث لم يكن مسموحا باللعب أو التقصير، وكان من ثمرته أن حصل علي المركز الأول في الثانوية العامة بين أقرانه، والتحق بتربية عين شمس، وتخرج مدرسا للكيمياء من طرازٍ فريد، لا يمل الشرح والتكرار، ولو على حساب جسده وبيته، المهم أولا وأخيرا مصلحة الطالب .

تعرفتُ عليه في المرحلة الإعدادية، وكان عائدا لتوه من إعارةٍ للسعودية، لم تدم طويلا؛ لاعتراضه علي أوامر وتعليماتٍ تتعارض مع كبريائه التي تربي عليها، ورُبّ ضارةٍ نافعة، فقد مكنتني وجيلي عودتُه المبكرة من التعرف علي مُدرسٍ كان نسيجَ وحده، علما وخلقا، لغة وحوارا، إدارة وتعاملا راقيا مع تلاميذه وزملائه؛ وهو ما أهله ليكونَ في مدرسته وبيته أشبه بـ(شيخ الحارة)، إذ كانت تُرفعُ إليه كل قضية، ويتسابقُ إليه كلُّ ذي مظلمة .

امتاز صلاح صالح بأدبٍ جم، ولغة حوار، وحسن تعامل مع أهله، لم يكن معهودا ومألوفا في قريتنا وكلّ القري، التي وقف شظفُ العيش حائلا بين أبنائها وفنّ (الإتيكيت).

استرعي انتباهي منذ الصغر مشهدٌ مازال محفورًا بذهني للآن، جسّد فيه صلاح صالح نموذجَ الزوج الخلوق المتأسي بخُلق نبينا القائل : (خيرُكم خيركم لأهله، وأنا خيرُكم لأهلي) .

فقد شاءت الأقدارُ أن أكون جليسه يوما، وأنا طفلٌ يافع، ذهني كصفحة بيضاء يُنقشُ فيها كلُّ موقف، ويُسجَلُ فيها كلّ فعل، إذ طلب من زوجته سليلةِ بيت الأدب والخلق أن تُعدّ لنا فنجانين من الشاي، وصدَّر طلبه بقول من فضلك، فاستجابت زوجتُه، وقدمت الشاي بقولها : تفضل .

قد يبدو للقارئ أنّ كلمتي: (من فضلك، وتفضل) شيءٌ مألوف أو عباراتٌ متداولة، ربما هما كذلك الآن، ولكن وقتها، حيث رعونة (الفلاحين)، والافتقار لكلّ وسائلِ الترفيه والتثقيف، كانتا قمة الذوق والأدب، وموقف (سي السيد مع أمينة ) في ثلاثية محفوظ خيرُ شاهد، وأكبر دليل على هيمنة الرجل، التي كان صلاح بعيدا عنها .

عُرف صلاح صالح بضميره اليقظ، وحرصه الدائم علي مصلحة طلابه، ولم يشغله السعي وراء المال، فداوم علي التفاني في حصة المدرسة، وإن طُلب لدرسٍ خصوصي، كان المالُ آخرَ حساباته، فنال ثقة الطلاب وأولياء الأمور .

امتاز صلاح صالح بموسوعية المعرفة، وخفةِ الظل، ولكنْ بحسابٍ، وصرامةٍ في غير تجهُم، فكنّا نجلس أمامه كأن علي رؤوسنا الطير؛ اندهاشا بخلقه قبل علمه، وبعلمه قبل خلقه، وبهما معا.

لم يجعل صلاح بينه وبين تلاميذه حواجز وأسلاكا شائكة، بل كانت العلاقةُ بينه وبينهم بجانب أستاذيته صداقة، تُبرهن إلي أي حدٍ كم كان الرجلُ تربويا بحق، ومعلما نبيلا .

ساعدته حكمتُه التي ورثها عن أبيه في إدارة الأزمات، فكانت طلباتُه من تلاميذه وزملائه أوامر لا تُرفض .

تعددت مواهبُ الرجل، فاختير بفضلها رئيسا لمجلس الأمناء بمدرسة قريتنا الثانوية، وعضوا بالعديد من الجمعيات الخيرية، ووصل في عمله لدرجة موجهٍ عام لمادة العلوم، فكانت توجيهاتُه وملاحظاتُه لتطوير مادة العلوم، وطرق تدريسها موضع اهتمام صانعي القرار، كما اختير لوضع امتحان الثانوية العامة في أحد الأعوام، وهي ثقة قلما يحظي بها مدرسُ مادة في قرية نائية عن العاصمة، حيث اتخاذ القرار .

صلاح صالح هو تجسيدٌ حقيقيٌ لمعني النبل والجمال وحسن الخلق، وفن (الإتيكيت) منذ زمن مبكر .
-------------------------
بقلم: صبري الموجي
* مدير تحرير الأهرام

مقالات اخرى للكاتب

صلاح صالح .. وفن ( الإتيكيت ) !