05 - 06 - 2025

قضية ياسين: بين جريمة فردية وغضب طائفي.. حين يتحول الألم الشخصي إلى أزمة مجتمعية

قضية ياسين: بين جريمة فردية وغضب طائفي.. حين يتحول الألم الشخصي إلى أزمة مجتمعية

- مظهر شاهين: «لا تجعلوا من مصاب إنساني وقودًا لفتنة.. الجاني يُحاسب لا جماعته». 
- ويؤكد: «العدالة لا تُبنى على الطائفة.. بل على الوقائع والدليل»

في تطور جديد، قامت محكمة الاستئناف في الإسكندرية بتحديد جلسة 23 يونيو 2025، لنظر الاستئناف المقدم من المتهم "ص.ك.ج" على الحكم الصادر ضده بالسجن المؤبد في قضية هتك عرض الطفل ياسين، البالغ من العمر خمس سنوات، داخل مدرسة خاصة في محافظة البحيرة. وكانت محكمة جنايات دمنهور قد أصدرت حكمها بالسجن المؤبد على المتهم، بعد أن استقر في يقين المحكمة ثبوت التهمة عليه، بناءً على التحقيقات، والشهادات، والتقارير الرسمية، وفي مقدمتها تقرير الطب الشرعي.

الواقعة التي كانت في بدايتها جريمة بشعة تكشف عن ثغرات في نظام حماية الأطفال داخل المؤسسات التعليمية، تحولت إلى أزمة طائفية، بسبب اختلاف ديانة الجاني والضحية. ما بدأ كحادثة فردية سرعان ما تحول إلى مادة دسمة للجدل على منصات التواصل الاجتماعي، حيث أثيرت العديد من التساؤلات حول المسؤولية القانونية والدينية، والأبعاد المجتمعية التي ترافقت مع الحادث.

تفاصيل الجريمة

بدأت القصة في يوم عادي، عندما عاد ياسين إلى منزله من المدرسة في حالة نفسية سيئة، يرفض دخول الحمام، ويشعر بألم شديد. بعد محاولات من والدته لاستجوابه، اعترف الطفل بتعرضه للاعتداء الجنسي داخل المدرسة. الطفل حكى لوالدته أن الجاني هو "الراجل الكبير" الذي يعمل في المدرسة. هذا الراجل كان صبري كامل جاب الله، موظف شؤون مالية بالمدرسة، الذي يبلغ من العمر 78 عامًا.

والدة الطفل تقدمت ببلاغ رسمي للشرطة، ليتم عرض الطفل على الطب الشرعي، الذي أكد وجود آثار الاعتداء الجنسي. تحركت النيابة العامة بسرعة للتحقيق في الحادث، في الوقت الذي صدمت فيه الأسرة بقرار النيابة الأول بحفظ القضية؛ بسبب "عدم كفاية الأدلة". ومع ذلك، لم ترفع الأسرة يدها عن المطالبة بالعدالة، حيث قدمت تظلمًا، وبالفعل تم إعادة فتح التحقيقات.

 القضية الطائفية على السوشيال ميديا

ما أن تم الإعلان عن هوية الجاني وديانته، حتى انفجر الجدل الطائفي على منصات التواصل الاجتماعي. فبينما كانت القضية في البداية جريمة فردية، سرعان ما تحولت إلى أزمة طائفية، أظهرت انقسامات حادة داخل المجتمع المصري.

العديد من المسلمين اعتبروا أن الجريمة ليست مجرد اعتداء على طفل، بل هي استهداف من شخص ينتمي إلى ديانة مختلفة. اشتعلت موجات من الغضب على السوشيال ميديا، وظهرت دعوات عبر العديد من الصفحات التي تحرض على "القصاص" من الجاني، معتبرين أن الجريمة تمثل نوعًا من "العدوان على الأطفال المسلمين"، متجاهلين تمامًا البُعد الجنائي للجريمة.

في المقابل، خرج العديد من المسيحيين ليعبروا عن غضبهم من تصعيد القضية إلى مستوى طائفي، معتبرين أن المتهم ليس إلا فردًا مجرمًا، وأنه لا يجب تحميل الطائفة المسيحية برمتها مسؤولية جريمة ارتكبها شخص مريض نفسيًّا. عبر العديد من النشطاء المسيحيين عن استنكارهم لمحاولات ربط الجريمة بالعامل الديني، وأكدوا أن هذه المحاولات قد تؤدي إلى زيادة الفتنة والانقسام بين أبناء الوطن الواحد.

تحولت القضية إلى ساحة حرب كلامية على الإنترنت، حيث تتبادل الصفحات الدينية اتهامات بعضها البعض، فيما غاب الحديث عن الجريمة نفسها، وتركزت المناقشات على الديانة والعِرق.

فصل الدين عن الجريمة: ضرورة لمواجهة الفتنة

القضية على الرغم من بشاعتها، كانت درسًا في كيفية تحول الأحداث الشخصية إلى أزمات طائفية. فبدلًا من التركيز على الجريمة نفسها، تحول الموضوع إلى ساحة صراع طائفي بسبب الديانة. كانت الدعوات للمطالبة بالقصاص تأخذ أبعادًا دينية، في الوقت الذي كانت دعوات التهدئة تركز على ضرورة فصل الدين عن الجريمة، وأن المتهم يجب أن يعاقب بناءً على فعلته، بغض النظر عن خلفيته الطائفية.

أصدر الأزهر الشريف بيانًا رسميًّا يدين فيه الحادثة بشدة، حيث أكد أن مثل هذه الجرائم لا ترتبط بأي دين أو مذهب، وأن الاعتداء على الأطفال هو جريمة إنسانية يجب أن يعاقب مرتكبوها بأشد العقوبات.

أما الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، فقد أكدت في بيان رسمي أن هذا العمل لا يمثل الكنيسة أو المسيحية، مشيرة إلى أن المتهم هو فرد مريض نفسيًّا، ويجب محاسبته بشكل حازم.

وقد تجنب المسؤولون في كلا المؤسستين تحويل القضية إلى قضية طائفية، مؤكدين على أهمية تحقيق العدالة وحماية الأطفال، بصرف النظر عن الديانة أو الخلفية الثقافية.

الأبعاد المجتمعية: الجريمة والتسييس

جريمة مثل هذه كانت ستظل مجرد حادثة شنيعة، لولا تصعيد الجدل الطائفي الذي رافقها. حيث أن هذا الحادث سلط الضوء على العديد من القضايا المجتمعية مثل:

- ضعف الرقابة في المدارس؛ فمدرسة يُفترض أنها مكان آمن للأطفال، كانت هي مسرح الجريمة.

- الاستغلال الطبقي والطائفي. البعض اعتبر أن القضية تم استغلالها لتفجير الأوضاع الطائفية، بينما آخرون شددوا على ضرورة فصل الجريمة عن الدين.

- ثقافة السكوت والتمييــز. وُجهت اتهامات للمدرسة بعدم إبلاغ السلطات فور وقوع الجريمة، مما يعكس ضعف نظام الحماية في المؤسسات التعليمية.

وقال الشيخ مظهر شاهين، إمام مسجد عمر مكرم وعضو المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، إنه لا يجوز شرعًا ولا عقلًا تحميل ديانة بأكملها وزر جريمة ارتكبها فرد، مستشهدًا بقوله تعالى: "ولا تزر وازرة وزر أخرى". وأكد أن هذه قاعدة قرآنية قاطعة تنهى عن تحميل الجماعة بخطأ الفرد، مشيرًا إلى أن الديانات السماوية جاءت لهداية الناس وإصلاحهم، وليس من العدل أن تُدان ديانة لمجرد أن أحد أتباعها خالف تعاليمها.

وأضاف شاهين أن الجذور الحقيقية لتصاعد البُعد الطائفي في بعض القضايا الجنائية، ليست دينية إطلاقًا، بل هي اجتماعية وثقافية، ناتجة عن تراكمات وأخطاء في التنشئة، أو بسبب خطاب متعصب يخلط بين الإدانة وبين التعميم، مؤكدًا أن الدين الحقيقي لا يُنتج فتنة، وإنما يُطفئها.

وعن واقعة الطفل ياسين، قال شاهين إن الجريمة مؤلمة وفاجعة، وتعاطفنا مع الضحية لا شك فيه، ولكن تحويل الجريمة إلى قضية طائفية ظلمٌ للمجتمع وللضحايا أنفسهم، ويجرّنا إلى فتنة نحن في غنى عنها، معتبرًا أن الردود الطائفية تعمّق الشرخ ولا تجبر الكسر.

وشدد على أن المؤسسات الدينية يجب أن تتحرك سريعًا بصوت موحد، يؤكد أن الجريمة مرفوضة بكل المقاييس، دون انزلاق إلى خطاب الانتماء الديني أو المذهبي، مشيرًا إلى أن بيانًا موحدًا من الأزهر والكنيسة في مثل هذه اللحظات، له أثر كبير في تهدئة النفوس ومنع استغلال الحدث.

وقال إن الجهد موجود في الخطاب الديني لمواجهة خطاب الكراهية، لكننا بحاجة إلى تطويره، لا في المضمون فقط، بل في وسائله ولغته، مؤكدًا أن الخطاب الديني يجب أن يكون واقعيًّا، معاصرًا، قادرًا على الوصول إلى الشباب بلغة يفهمونها، لا بلغة النُخَب فقط، وأن يحضر في الفضاء الرقمي لا في المساجد فقط.

ووجّه رسالة لأبناء ديانته قائلًا: اثبتوا على قيم دينكم التي تدعو إلى العدل والرحمة، ولا تسمحوا للغضب أن يجرّكم إلى ما يخالف تعاليم الإسلام، فديننا لا يُحمّل بريئًا ذنب مذنب، ولا يزرع الكراهية، بل يُقرّ الحق ويطالب بالعدالة دون تعميم أو افتراء.

وأكد أن رجال الدين يمكن أن يساهموا في إعادة توجيه النقاش العام نحو جوهر الجريمة، وليس خلفية الجاني الدينية، بأن يوضّحوا دائمًا أن العدالة لا تُبنى على الطائفة، بل على الوقائع والدليل، داعيًا إلى استخدام المنابر واللقاءات لتصحيح المفاهيم المغلوطة، ونزع فتيل التعميم، وتحويل النقاش من سؤال "من أي ديانة؟" إلى "ما الذي حدث؟ ولماذا؟"

وأشار إلى أن التعاون بين الأزهر والكنيسة في مواجهة القضايا ذات الحساسية المجتمعية ليس ترفًا، بل ضرورة وطنية وأخلاقية، معتبرًا أن ظهور رموز المؤسستين سويًا في لحظات التوتر يعيد التوازن للمجتمع، ويقدّم صورة مشرفة لوحدة هذا الوطن.

وأكد أن الوعي يمكن أن يُزرع في الأطفال وأولياء الأمور من خلال التعليم، والتربية، والخطاب الإعلامي، قائلًا: "إن علينا أن نربّي أبناءنا على أن الخير والشر ليسا حكرًا على طائفة أو دين، بل هما سلوك إنساني، وأن يتعلم الطفل أن القاتل يُدان لأنه قاتل، لا لأنه مسلم أو مسيحي، وأن الضحية تُرثى لأنها مظلومة، لا لأنها من هذه الطائفة أو تلك".

فخ التحريض

وتحدث شاهين عن تعامل وسائل التواصل الاجتماعي مع الحادثة، مؤكدًا أن بعض المنصات وقعت في فخ التحريض، واستُخدمت لبثّ الانقسام، وهو أمر بالغ الخطورة، مشددًا على أهمية التحلي بالمسؤولية الوطنية والإنسانية، وعدم التسرع في نشر الأخبار أو التعليق عليها قبل التثبت؛ لأن الكلمة تقتل كما تقتل الرصاصة، وتبني كما تبني اليد.

واختتم قائلًا: "أنصح المجتمع كله، وخصوصًا الشباب ورواد السوشيال ميديا، بأن يتعاملوا مع مثل هذه الحوادث بميزان الحكمة لا الانفعال، وبعين الإنسان لا عين الطائفة. لا تجعلوا من مصاب إنساني وقودًا لفتنة. الجريمة يُدينها الدين والقانون، ويُحاسب عليها الجاني لا جماعته. احذروا نشر الشائعات أو المبالغات التي تُثير الفزع وتؤجّج الغضب، وتذكّروا أن الوطن أكبر من الحوادث، وأن حفظه مسؤوليتنا جميعًا.

وليكن لكل منكم دور في تهدئة النفوس، لا إشعال الخلاف. وإنني أؤكد أن تفعيل القانون ضد كل من يروّج الشائعات أو ينشر الفتن ويُعرّض السلم المجتمعي للخطر، هو رادعٌ لا بد منه، يحفظ وحدة الوطن، ويمنع التمادي في العبث.

كن صانع وعي، لا صانع أزمة. وكن حائط صدّ في وجه الفتنة، لا أداةً لها".

قضية ياسين ليست مجرد حكم على مغتصب، بل هي جرس إنذار لنا جميعًا:

هل نقوم بحماية الأطفال في مؤسساتنا التعليمية بالشكل الكافي؟

هل القضاء على هذه الجرائم يتطلب فقط تطبيق القانون؟ أم أن هناك ضرورة لإصلاح جذري في التربية والتعليم؟

كيف نواجه التوترات الطائفية التي يمكن أن تندلع بسهولة؟ وكيف نضمن أن العدالة لا تكون ضحية لهذه التوترات؟

إنه زمن يجب فيه على المجتمع المصري أن يقف مع نفسه، ويعيد النظر في منظومته الأخلاقية والقانونية، لعلنا نتمكن من حماية أطفالنا في المستقبل، وضمان حياة آمنة لهم، بعيدًا عن أي صراعات أو توترات.