- شراكة استراتيجية أم خروج عن الدور الروحي؟
- العلاقة الحالية مع الدولة من أفضل المراحل التي مرت بها الكنيسة منذ عام 1952م.
- الأب بولس عوض: دورنا كرجال دين تقديم الإرشاد الروحي، ولكن لا يمكننا تجاهل واقع سياسي يؤثر على حياتنا اليومية.
- ماركو الأمين: الكنيسة ليست معنية بصياغة القوانين، ولكنها مسؤولة عن ضمان حياة أفضل لأبنائها.
- الكاهن ميخائيل الأنطوني: يجب أن تظل محايدة. ولا ينبغي لنا أن نكون جزءًا من صراعات السياسة.
منذ ثورة 25 يناير 2011، أصبح دور الكنيسة في الحياة السياسية المصرية أكثر وضوحًا، في القضايا الاجتماعية والسياسية التي تخص الأقباط، وفي هذا التحقيق تحاول "المشهد" الإجابة على أسئلة تشغل الكثيرين حول العلاقة بين الكنيسة والحكومة وتأثير الكنيسة القبطية على الحياة السياسة، وهل تتجاوز بذلك دورها الروحي لتلعب دورًا مؤثرًا في الشأن العام؟
كانت ثورة الخامس والعشرين من يناير حدثًا فارقًا في تاريخ الأمة المصرية، وشهد المجتمع بعدها تحولات اجتماعية واقتصادية وسياسية كبرى من بينها زيادة مساحة التعاون بين الدولة والكنيسة، عبر دعم الكنيسة بشكل واضح لرئيس الجمهورية الحالي عبدالفتاح السيسي، في انتخابات 2014، ودعوة الكنيسة لأتباعها إلى المشاركة بكثافة في الانتخابات. هذا التداخل بين الكنيسة والسياسة لقي ترحيبًا من بعض الأقباط بوصفه خطوة نحو استقرار البلاد، وحماية لهم من التهميش، بينما رأى آخرون أن الكنيسة بهذا التدخل تفقد حيادها الروحي.
دعم الاستقرار
المتابع للمواقف السياسية للكنيسة المصرية في السنوات الأخيرة يجد أنها تركز على دعم الاستقرار السياسي أكثر من أي شيء آخر، وتعتبر الحكومة الحالية، ممثلة في الرئيس السيسي، هي الأقدر على ضمان استقرار البلاد ومصالح الأقباط. في انتخابات 2018، عادت الكنيسة لتؤكد دعمها للرئيس السيسي، ودعت الأقباط للمشاركة المكثفة، معتبرة أن استقرار الدولة يعود بالنفع على الجميع.
وهذا الأمر لا يعني أن الكنيسة كانت بعيدة عن الحياة السياسية في مصر بشكل كامل في العهود السابقة، فمنذ عقود، تعتنق الكنيسة المصرية مواقف سياسية مدافعة عن حقوق الأقباط، سواء كان ذلك في مواجهة التمييز، أو في دعم القوانين التي تضمن حقوقهم. وبعد 2011، قدمت الكنيسة مطالب في مجالات متعددة، مثل: الحق في بناء الكنائس، وتعديل قوانين الأحوال الشخصية للأقباط.
وأكد البابا تواضروس في أكثر من مناسبة، على أحقية الأقباط في بناء الكنائس، على قدم المساواة مع المسلمين. وهو ما استجابت له الحكومة المصرية عبر قانون بناء الكنائس في عام 2016، والذي عدّ خطوة مهمة، نحو حل المشكلة المزمنة التي كان يواجهها الأقباط في بناء دور العبادة.
ترقب وانتظار
كما كانت هناك مطالبات كنسية بضرورة تعديل قانون الأحوال الشخصية للأقباط، الذي كان محل جدل طويل؛ بسبب تعقيداته، وقلة خياراته في حالات الطلاق والزواج المدني. وبالفعل، بدأ البابا تواضروس في ممارسة ضغوط أكبر على الحكومة، لتغيير هذا القانون بما يتناسب مع تطلعات الأقباط. لكن رغم الجهود المبذولة، لم يتم التوصل إلى حل شامل لهذه القضية حتى الآن، مما يترك الأقباط في حالة من الترقب والانتظار.
علاقة معقدة
تُعتبر العلاقة بين الكنيسة والحكومة المصرية من العلاقات المعقدة، حيث تميل الكنيسة في الكثير من الأحيان إلى تأييد الحكومة، خصوصًا إذا كان ذلك يخدم مصالح الأقباط. بعد ثورة 2011، تحولت هذه العلاقة إلى ما يمكن أن يُطلق عليه "الشراكة" بين الكنيسة والدولة.
شراكة قائمة على المصالح المشتركة إذ تسعى الكنيسة إلى ضمان حماية حقوق الأقباط، وفي المقابل تسعى الحكومة إلى الاستفادة من الدعم الشعبي الذي تقدمه الكنيسة. وقد تجلى هذا التعاون في عدة مناسبات، مثل: دعم الكنيسة للقيادة السياسية في أوقات الأزمات، ومنها دعم السيسي في انتخابات 2014، والتأييد القوي للسياسات الحكومية في مجال الأمن والإصلاحات الاقتصادية.
لكن هذا التعاون لم يكن يخلو من التحديات. فالبعض يرى أن الكنيسة قد تكون قد تخطت حدود دورها الروحي، بتتدخلها القوي في القضايا السياسية، معتبرين أن الكنيسة يجب أن تظل محايدة، مع التأكيد على أهمية عدم الخلط بين الدين والسياسة. هذا الموقف يعكس انقسامًا داخل المجتمع القبطي.
انقسام كنسي
تتنوع آراء رجال الدين داخل الكنيسة القبطية حول دور الكنيسة في السياسة. بعضهم يعتقد أن الكنيسة يجب أن تكون فاعلة في الشأن السياسي؛ لضمان حماية حقوق الأقباط، بينما يفضل آخرون البقاء بعيدًا عن السياسة، والتركيز على الدور الروحي فقط.
في هذا السياق، يقول الأب بولس عوض، أحد الكهنة في القاهرة: "إن دورنا كرجال دين هو تقديم الإرشاد الروحي، ولكننا لا يمكننا تجاهل الواقع السياسي الذي يؤثر على حياتنا اليومية. الأقباط يحتاجون إلى دعمنا، خاصة في الأوقات الصعبة".
أما الأب ميخائيل الأنطوني، كاهن آخر، فيرى أن "التدخل في السياسة يجب أن يكون حذرًا، وأن الكنيسة يجب أن تظل محايدة. نحن نمثل رسالة الله، ولا ينبغي لنا أن نكون جزءًا من صراعات السياسة".
مخاوف داخلية
اشتباك الكنسية مع السياسة يثير مخاوف بعض رجال الكنسية أيضًا بسبب خشيتهم من أن يؤدي الانخراط السياسي إلى إضعاف دور الكنيسة الروحي، ويبعدها عن رسالتها الأساسية. هو ما يشير إلى وجود انقسامات داخل الكنيسة نفسها حول كيفية إدارة هذه العلاقة مع السياسة.
وفي هذا الصدد يقول ماركو الأمين، الباحث في التاريخ الكنسي ومؤسس مبادرة "هيستوريا" للتاريخ المسيحي:
"من وجهة نظري، الدور المفترض أن تلعبه الكنيسة في الشأن العام لاهوتي لا يقتصر على جانب واحد؛ بل ينقسم إلى ثلاثة أدوار متكاملة: دور أخلاقي، ودور كرازي، ودور خدمي أو مجتمعي. الدور الأخلاقي يتمثل في أن تكون الكنيسة صوتًا للحق، والعدل، والحرية، والسلام، في المجتمع المحيط بها، وهو جزء أصيل من رسالتها. أما الدور الكرازي، فيرتبط بالتبشير بالرسالة المسيحية، والإيمان بالمسيح يسوع، سواء للمؤمنين أو لغير المؤمنين. بينما الدور الخدمي يشمل مسؤوليتها تجاه المجتمع بكافة أطيافه، دون تمييز ديني أو اجتماعي، من خلال تقديم الدعم للمحتاجين، والسعي لسد احتياجاتهم؛ وهو ما يجعل الكنيسة فعلاً 'أمًّا' للجميع".
ويضيف الأمين: "إذا كانت الكنيسة ينبغي أن تتدخل في السياسة لحماية الأقباط، فالأمر يتوقف على تعريفنا للسياسة. إذا كنا نتحدث عن السياسة باعتبارها صياغة الأطر العامة التي تنظم علاقة المواطنين ببعضهم البعض، فالكنيسة ليست منوطة بهذا الدور، ولا يجب أن تتدخل في تقديم القوانين أو في العمل السياسي المباشر، حتى لو كان ذلك بدعوى حماية الأقباط".
ويوضح: "بما أن الكنيسة باتت مؤسسة تتعامل مع الدولة، وهو أمر فرضه التاريخ منذ القرن الرابع الميلادي وحتى اليوم، فلا يمكنها أن تتجاهل وجود نوع من التوازنات السياسية، لا بهدف فرض الرؤى أو الهيمنة، وإنما بهدف ضمان حياة أفضل لأبنائها، وربما أيضًا للمجتمع ككل. مضيفًا أنه من المهم ألا يتعارض هذا الحضور مع دور الكنيسة الأخلاقي كصوت للحق".
وتابع: "العلاقة الحالية بين الكنيسة والدولة، هي من أفضل المراحل التي مرت بها الكنيسة منذ عام 1952؛ بل ربما الأفضل على الإطلاق، حتى بالمقارنة مع فترة الصداقة التي جمعت بين البابا كيرلس السادس وجمال عبد الناصر. مشيرًا إلى أننا أمام مستوى عالٍ من التعاون، يتسم أيضًا بنوع من التبعية.
ويؤكد أنه لا يمكن إنكار أن الكنيسة الآن تتماشى مع الخط العام للدولة، وهذا طبيعي كمؤسسة لها مصالح، لكنها لا تُفرض بالضرورة على الكنيسة؛ لأن هناك احتمالًا كبيرًا أن يكون رجال الدين أنفسهم مقتنعين بالرؤية التي يتم التعبير عنها".
ويشير إلى أن: "مشاركة الكنيسة في تشجيع الأقباط على التصويت في الانتخابات، أمر إيجابي من وجهة نظري. الأقباط عانوا من العزلة طويلًا، ومن المهم أن تحثهم الكنيسة على الاندماج الكامل كمواطنين، لهم حقوقهم السياسية مثل أي فئة أخرى في المجتمع. مضيفًا أنه ما يرفضه هو قيام الكنيسة بتوجيههم لاختيار مرشح بعينه. دورها ينبغي أن يقتصر على الدعوة للمشاركة، دون توجيه سياسي صريح".
وعن قانون الأحوال الشخصية، يقول الأمين: "الدولة استجابت لمطالب الكنيسة القبطية بشكل جيد في هذه المسألة. صحيح أن هناك بعض التباطؤ في بعض المراحل، لكن هذا يعود جزئيًا إلى التعديلات والاعتراضات. موضحًا أن الكنيسة الآن لديها وضع قانوني مقنن أفضل بكثير. ومع ذلك، نحن بحاجة إلى قانون أحوال شخصية مدني يُطبّق على المصريين جميعًا، لمن يرغب في اللجوء إليه".
ويضيف: "في عهد البابا تواضروس، قامت الكنيسة بخطوات مهمة لتحسين أوضاع الأقباط على المستوى المؤسسي، لكنها لا تزال بحاجة إلى هيئات قانونية داخلية قوية، ليس فقط لمعالجة قضايا الأحوال الشخصية، وإنما للمساهمة في بناء رؤية قانونية عامة للكنيسة، بوصفها مؤسسة داخل الدولة".
مشروعات خدمية
ويردف ماركو الأمين: "الكنيسة تحتاج أيضًا إلى التوسع في مشروعاتها الخدمية داخل مصر. هناك برامج تنموية قوية تطبقها الكنيسة في إفريقيا، لكن على المستوى المحلي، البرامج لا تزال بحاجة إلى تطوير ومزيد من الفاعلية".
وبشأن الجدل داخل الكنيسة حول الانخراط في الشأن السياسي، يعلّق الأمين: "الانقسام في الرأي داخل الكنيسة حول هذا الملف أمر طبيعي وصحي. ليس من المفترض أن تكون الآراء موحدة، خاصة أن مفهوم السياسة نفسه يختلف من شخص لآخر، وكذلك رؤية كل طرف لدور الكنيسة ومكانتها".
ويكشف الأمين أنه: "من حيث المبدأ، لا يُفترض بالكاهن أن يكون له رأي سياسي، فالقانون الكنسي والروحي يمنع الإكليروس من الانخراط في أي عمل سياسي. لافتًا أنه في الواقع عبر عدد من الكهنة عن مواقف سياسية في مراحل سابقة، وشاركوا في حركات سياسية".
ويشير: "إلى أن الوضع حاليًا، أصبح أكثر انضباطًا. معربًا عن أمله في أن يكون هناك حوار داخلي أوسع داخل الكنيسة، يشمل البطريرك، والأساقفة، والعلمانيين، والباحثين؛ لأن هذا النوع من الحوار هو ما يثري التجربة الكنسية، والبابا تواضروس قام بذلك أكثر من مرة ضمن إمكانياته".
في الختام الكنيسة القبطية الأرثوذكسية تعد واحدة من المؤسسات الدينية الأكثر تأثيرًا في مصر، لكن هذا التأثير يتجاوز الجوانب الروحية ليشمل السياسة أيضًا. العلاقة بين الكنيسة والدولة في مصر مملوءة بالتحديات والفرص، وكلما زاد تداخل الدين بالسياسة، زادت الأسئلة حول الحدود بينهما. وفي النهاية، تبقى الكنيسة مؤسسة دينية، يجب أن تحترم سياساتها الاجتماعية، مع الحفاظ على حيادها الروحي؛ لتكون مساحة آمنة ومؤثرة للأقباط.
------------------------------
تحقيق: مادونا شوقي