14 - 06 - 2025

خدمات الحج في العصرين المملوكي والعثماني في دراسة تاريخية لباحثة مصرية

خدمات الحج في العصرين المملوكي والعثماني في دراسة تاريخية لباحثة مصرية

يعتبر قصي بن كلاب، الجد الأعلى للرسول صلى الله عليه وسلم، أول من وضع أسس حكومة مكة وخدمة الحرم والحجاج وتشمل الندوة، واللواء، والحجابة، والرفادة والسقاية. واستمرت هذه الوظائف في أبنائه من بعده، حتى عثمان بن طلحة الذي كان سادن الكعبة حينما فتح الرسول مكة، وأبقى على الحجابة والرفادة والسقاية والسدانة، وألغى ما عدا ذلك من خدمات جاهلية. 

في الفترة من 648 إلى 784هـ (1250 – 1382م) أولى سلاطين المماليك خدمة الحج والعمرة اهتماماً كبيراً، وفعل الأمر نفسه حكام العصر العثماني من 923 إلى 1230هـ (1517 0 1805م). وشمل ذلك تأمين قوافل الحجاج، وتوفير مصادر المياه على امتداد طرق الحج، وفي محيطي الحرمين الشريفين، والمشاعر المقدسة، ما جعل مكة المكرمة والمدينة المنورة تمتلئ بالأسبلة التي تسابق الموسرون في إنشائها والعناية بها. وفي كتابها "المحمل المصري وخدمات الحج والعمرة في العصرين المملوكي والعثماني" (الهيئة المصرية العامة للكتاب) قدمت الباحثة المصرية محاسن الوقَّاد ثلاث دراسات، في هذا الصدد، شملت الحقبتين المملوكية (بمرحلتيها) والعثمانية حتى عام 1805م وهو العام الذي تولى فيه محمد علي حكم مصر والاستقلال بها، إلى حد ما عن مركز الحكم العثماني في اسطنبول ، مع التركيز على تاريخ "المحمل المصري" منذ زمن الدولة الفاطمية، وإمارة الحج ومخصصاتها. كما تناولت جغرافية مكة والمدينة في تلك الفترة ومساجدهما، ومدارسهما التي كان يجتمع فيها علماء المسلمين لعقد الحلقات العلمية، والأربطة (أماكن الإقامة) والبيمارستانات (المستشفيات) والأسبلة (لتوفير الماء العذب)، في الحرمين الشريفين. 

طريق الحج

تبارى حكام المسلمين في توفير الخدمات للحجاج من مأكل ومشرب ومسكن، وإحلال وسائل الأمن خلال تنقلاتهم بين الأماكن المقدسة، إلى عودتهم لبلادهم آمنين. وفي هذا السياق، اهتم الخليفة المعز لدين الله الفاطمي بطريق الحج المصري وقام بتوزيع أعطيات على سكان هذا الطريق، كما شملت أعطياته سكان مكة أيضا. وفي عام 410هـ / 1019م وفي عهد الخليفة الحاكم بأمر الله أعيد إصلاح طريق الحج المصري. وألغى صلاح الدين الأيوبي المكوس التي كانت تؤخذ من الحجاج من قِبل والي مكة والأعراب الموالين له. وفي عام 645هـ / 1247م أرادت الملكة شجر الدر الحج، وفضلت الذهاب عن طريق البر، فأمرت بإصلاح الطريق وحفر الآبار وبناء البرك على طول طريق الحج المصري. اعتمدت مكة في تموينها الغذائي على مصادر محلية في حدود إمارة مكة، وأخرى خارج حدود الجزيرة العربية. اعتمدت على الحاصلات الزراعية الواردة من الطائف حيث يقول ابن بطوطة: "وتجلب لها الفواكه والخضر من الطائف ووادي نخلة وبطن مر" ويشير المقدسي إلى وفرة الزراعات بالطائف : "مدينة صغيرة شامية الهواء باردة الماء أكثر فواكه مكة منها". ويذكرنا ناصر خسرو الذي زار مكة عام 442هـ / 1051م أنه زار الطائف وشاهد مزروعاتها: "وقصبة الطائف هذه مدينة صغيرة بها حصن محكم وسوق وجامع صغيران وبها ماء جار وأشجار رمان وتين كثيرة". أما ابن جبير فقد أشاد باستمرارية وجود الفواكه والأرزاق في مكة المكرمة طوال العام واعتبر أن هذا عجيبة من العجائب؛ وهذا ما كان ليتأتى لولا وجود الطائف على مسيرة ثلاثة أيام من مكة وقد دفع كل هذا بعض الموسرين من أهل مكة إلى امتلاك المزارع والبساتين في الطائف؛ بالإضافة إلى ما يملكونه في مكة من قطعان الإبل والأغنام والأبقار. اعتمدت مكة أيضا على ما يجلب إليها من جبال السراة وتهامة واليمن وبلاد السودان والحبشة ومصر. أما المدينة المنورة فاشتهرت منذ زمن بعيد بأنها منطقة زراعية.   

خدمات تعليمية وطبية  

وشهد عصر سلاطين المماليك تشييد العديد من المساجد لخدمة الحجاج والمعتمرين في مكة والمدينة وعلى امتداد الطريق بينهما. وبالإضافة إلى أداء الصلوات كان الحجاج والمعتمرون يقبلون على سماع الدروس التي تلقى في الحرمين الشريفين أو في المدارس الموقوفة على تلقي العلوم الدينية. وكان أهل مكة والمدينة حتى بداية القرن الخامس الهجري يستقبلون الحجاج في دورهم، ثم اتجه الأثرياء والسلاطين والأمراء إلى بناء أربطة ليقيم فيها الحجاج. وبالإضافة إلى ما كانت تقدمه تلك الأربطة من راحة لطلبة العلم، كان الحجاج يجدون فيها المأوى والمأكل والمشرب، والخدمات الطبية. ومنها رباط العباسي، الذي عمَّره السلطان الناصر محمد بن قلاوون في عام 827هـ ويقع بين الصفا والمروة، كما أشار ابن بطوطة في رحلته. ومن أربطة المدينة المنورة، رباط ياقوت، وقد أوقفه ياقوت المظفري المارداني على الفقراء والمساكين والغرباء. كان في مكة بيمارستان عمَّره ووقفه الخليفة العباسي المستنصر بالله عام 638 هـ / 1230م، ويقع بالجانب الشمالي من المسجد الحرام بالقرب من باب الزيارة. وفي عام 770هـ / 1357م أمر السلطان الأشرف بتجديده، ووقف عليه أوقافاً يصرف ريعُها سنوياً على هذا البيمارستان. وكان يوجد في المدينة المنورة بيمارستان يواجه المسجد النبوي من الجهة الشمالية الشرقية موقع دار أبي الغيث بن المغيرة، عمَّره السلطان الظاهر بيبرس عام 663هـ / 1262م أنشأ السلطان الناصر محمد بن قلاوون عام 760هـ / 1358م سبيلا في الجهة الجنوبية الشرقية للحرم المكي، ومن الأسبلة التي شيدت على طريق الحجاج إلى المشاعر المقدسة، سبيل السِت وقد شيدته السيدة زهراء بنت السلطان الناصر محمد بن قلاوون على طريق منى.

موكب المحمل

وكان موكب المحمل، إبان العصر العثماني، يخرج من القاهرة، وينزل البِركة التي عرفت باسم بركة الحجاج، وكانت تمثل أولى محطات طريق الحج المصري من شمال القاهرة، وكان ينصب بها سوق كبير فيه من الجمال وأنواع الملابس ما يحتاج إليه المسافر. وكان الموكب يمكث في هذا المكان لثلاثة أو خمسة أيام لكي تتم قافلة الحجاج استعدادها قبل الرحيل بعيداً عن الأهل، لأداء الفريضة.  

وما إن يصل إلى ينبع، كان أميرها وأشرافها يستقبلونه بين التهليل والتكبير. وفيما يتعلق باحتفالات مكة المكرمة، ففي اليوم التالي لدخول القافلة، يخرج شريف مكة لملاقاة الحجاج مع وجهائها وعساكرها وجمع غفير من الناس، مشاة وركباناً، في ترتيب عظيم، كما تذكر محاسن الوقاد. وقدم الورثيلاني في كتابه "نزهة الأنظار في فضل علم التاريخ"، صورة حية للاحتفال بغسل الكعبة وإلباسها كسوتها في محفل رسمي، "حيث أنه ليس يوم دخول لعامة الناس، وإنما يدخل أمير الحج والقيم وأتباعهما المعنيين بذلك. وعلى الباب حارس يمنع الناس من الدخول، إلا أنهم يكاثرونه، فإن منعوا من جانب، دخلوا من جانب آخر". ويدخل المحمل المدينة المنورة في احتفال كبير، من "باب العنبرية"، حتى يصل إلى "الباب المصري"، فيترجل كل من في الموكب إجلالا لمقام الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا وصلوا إلى "باب السلام"، بحسب وصف الورثيلاني، "أتى شيخ الحرم وتسلم زمام الجمل، وأصعده على سلم الباب، وأناخه على صدفة واسعة أمام الباب". وهناك؛ "يرفع المحمل، ويوضع في مكانه من الحرم غرب المنبر الشريف، وترفع كسوته المزركشة، ويلبسونه الكسوة الخضراء، ويرتدي أمير الحج ومن معه لباس الخدمة في الحجرة الشريفة. ثم يحملون الكسوة بكل احترام ويدخلونها في الحجرة الشريفة (حيث قبر الرسول صلى الله عليه وسلم) من الباب الثاني ويتركونها في جانب من ساحة مقام السيدة فاطمة، رضي الله عنها. وتظل الكسوة في الحجرة الشريفة حتى يخرجوها منها يوم سفر المحمل من المدينة المنورة".
----------------------
علي عطا