14 - 06 - 2025

"مصر أعلى من الكلام" - قصيدة للشاعر الفلسطيني المتوكل طه

***

مراكبُ النيلِ أم أحلامُ مَنْ عَبَروا

أمْ أنّه اللّونُ والجدرانُ والصُّوَرُ

أَمِ المناراتُ والأضواءُ فاهقةٌ

تَهْدي سواحلَ مَنْ أودى بهِ السفَرُ

أمْ أنها جيزةُ الأهرامِ خالدةً

وكَرْنَكُ الصلواتِ البيضِ والنَّهَرُ

والشمسُ معبودةُ الأقوامِ إنْ سجدوا

زُلفى ومقربةً ظَنّاً وما كفروا

وقلعةُ الملك المنصور أو فرسٌ

إلى المماليك، والسيفُ الذي شهروا

فطهّروا المسجدَ الأقصى بِعِطْر دَمٍ

وكان أنْ وحّدوا الراياتِ فانتصروا

والزّارُ والحلقاتُ الخُضْرُ رانخةٌ

بشهْدِها ومقامُ العشق والنُّذُرُ

وثُلَّةٌ مِنْ حرافيشِ النجيبِ على

نهرِ الخلودِ، فتطفو في السَّما السُّرُرُ

وليلةٌ في "الحسين"؛ النورُ ذائبةٌ

دموعُهُ وابتهالُ النَّجْمِ والسَّمَرُ

وأُمُّ كُلثومَ إنْ ماسَتْ على عَسَلٍ

مِنَ الغُروبِ يَثوبُ النَّاعِسُ الخَدِرُ

ورقصةُ الخيلِ والمزمارُ طافحةٌ

شجونُه لقتيلٍ هَمَّه الخَفرُ

و"الأزهرُ" الحقّ، مَنْ يحكي مسيرتَهُ

إلى مشارفِ مَنْ ثاروا ومَنْ ظهروا

والطيْبُ في جَرسِ الشمّاسِ مُذ صَدَعت

لربِّها دعوةُ الناموسِ والسُّوَرُ

وفي ثيابِ "أناييسَ" الخمورُ إذا

ذَكَرْتَ توبةَ مَنْ أفشى به السَّكَرُ

والعاشقونَ برمْشٍ ماتَ أكبرُهُم

ومَنْ تَوَلَّهَ في ليلى.. وقد عُذِروا

وفي القناطرِ ذيّالٌ يطيرُ على

بلّورةِ الغيمِ وحيْاً.. أرضُه الدُّرَرُ

بهيّةُ الأرضِ من وادي الملوكِ إلى

بحرٍ يفيضُ فتَحدو ماءَه السِّيَرُ

تصدُّ غائلةَ الهكسوسِ قادرةً

وفي أصابعِها الجندولُ والقمرُ

و"عينَ جالوتِ" يا "أقطايُ" نرفعُها

سيفاً بوجهِ الأَمُورِيِّ الذي ذكروا

وفي "القناةِ" اجتراحُ المعجزاتِ إذا

جاء الفرنجةُ والمحتلُّ والتترُ

ومَنْ سينسى رجالاً في الرمالِ إذا

غالوا شرايينَها من بعدِ أن أُسِروا

لم يبقَ في القدسِ قدسٌ بل جنازتُها

فلْيصمِتِ الشَّجْبُ والعرَّابُ والهَذَرُ

والعَرشُ إمّا مُباحٌ أو يُباعُ، ولو

أَحَسَّ بعضُهُمُ بالعارِ.. لانتَحروا

ومَنْ سيمحو شهيدَ القصفِ، معذرةً

فإنهم معَ دمِ الأطفالِ قد كبروا

هذي المسلاّتُ سهمٌ شاهدٌ ويدٌ

وسيفُ عَرْشٍ له من مَجْدِهِ أثرُ

والطميُ حنّاءُ أعراسِ الوعولِ إذا

شقَّ النوافذَ عودٌ شَفّهُ الوَترُ

ويلتقي العاشقانِ، النارُ فاتحةٌ

وآخرُ الأمرِ نبضُ الطينِ والشَّجرُ

محروسةَ الكوكبِ المذبوحِ هل عتبٌ

أَبوحُهُ ويداكِ البرقُ والمطرُ

وأنتِ أوّلُ مَنْ أهدى الطريقَ إلى

بابِ الحياة، وقدسُ اللهِ تنتظرُ؟

ومَنْ لِغَزَّةَ بعدَ اللهِ يا بلداً

أَذَلَّ أعداءَه بالعدلِ فاندحروا

وَأَيْنَعَ اللّوتسُ الريّانُ وابتدأتْ

حكايةُ الطفلِ والراياتُ والظَّفَرُ

وأنتِ مَنْ صبَّ رمّانَ القلوب على

ثرى فلسطينَ والفلّوُجةُ الخَبُر

وأنتِ أمُّ الشهيدِ الفذِّ إنْ عبقتْ

ياقوتةُ الجُرح راح الوردُ يعتذرُ

"شِيلاّه" يا سيّدي البدويّ، إنَّ لنا

أحلامَ يوسفَ والقمحَ الذي بذروا

والسّحرَ والسَّدَ والآياتِ إنْ شهدتْ

صلاتَنا الدارُ والأبراجُ والسَّحَرُ

ونخلةٌ في قطار الصُبْح مطهمةٌ

بِطلْعِها الحلوِ أو يسمو بها البصرُ

"شِيلاّه" يا فتيةَ الحاراتِ، كان لنا

يومٌ بهيجٌ، فمَنْ لم يشهدوا.. خسروا

يا مصرُ يا أولَ الحرفِ الذي نقشوا

فأزهرتْ بردةُ الكُهّانِ والجُدُرُ

وأنتِ أرضُ العراقيْنِ التي نُهِبَتْ

والشامُ والشاطئانِ: الماسُ والثَمرُ

وأنتِ في الذَّكْرِ أَمْنَاً خالصاً، ولهم

مهدٌ بقلبكِ إنْ حلّوا وإنْ خطروا

ومصرُ طفلٌ على البيداءِ يتركُه

شيخٌ نبيٌ فتأتي نَبْعَهُ الجُزُر

ومصرُ زينبُ والرأسُ التي حَملَتْ

حتى يقومَ على نُعْمانِهِ العمُرُ

والشافعيُّ وشوقي بعضُ أحرُفِها

والعزُّ والمجدُ والتاريخُ والِكَبرُ

والمكتباتُ وأفلامُ الزَّمانِ وما

قالَ السنونو ولَحْنُ الغيْبِ والفِكرُ

ومن هنا حملَ اليونانُ أَشرعةً

من نِيْلِ كُحْلَتِها كي يَنْفَذَ النَّظَرُ

والحُسْنُ أَوقَفَ ذا القرنينِ إذْ رَفَعتْ

أحجارُهُ تاجَ مَنْ باهَى بهِ الحَجَرُ

والخالدونَ بها القتلى إذا ذهبوا

وبالنجيعِ على شطآنِها مَهرَوا

ونحنُ أُوزيسُ هذا العصرِ يا امرأةً

تُعيد لحُمْةَ مَنْ جزّوهُ أو شَطروا

رُدّي علينا عباءاتِ النبيّ فإنْ

رَدَدْتِها كان في عليائِه القَدرُ

أو سوف يستيقظُ الصمتُ الذي فزعتْ

منه النجوعُ وضاقَ الزَرْعُ والبَشَرُ

ويعتلي عرباتِ النارِ مَنْ لبسوا

جلدَ العبيد ومَنْ جاعوا ومَنْ نُحِروا

وليس ينفعُ سَجْعُ الأقدمينَ ولا

خطابةُ الذلِّ والتزويرُ والحَذرُ

غداً.. غداً سيقومُ النائمونَ إذا

تَمَلْمَلَ المارِدُ المَحبوسُ والشَّرَرُ

هذي الكنانةُ والأحرارُ في دمِها

تكونُ أولَ مَنْ كانوا ومَنْ حضروا

وإنْ شققتَ جلودَ الأرضِ عن بلدٍ

في مصرَ تلقى ضياءَ الكونِ ينفجرُ
------------------------
قصيدة: المتوكل طه
* شاعر وأديب فلسطيني