يبدو أن مقال الأسبوع الماضي "الوحدة.. جنة الصمت أم جحيم العزلة؟" قد لمس مشاعر وأهاج نفوسًا شتى.
(المقال لمسني لأني عاملة زي الراجل اللي حضرتك بتوصفه بالضبط)، قالت سيدة فاضلة تعمل في مؤسسة دولية، ثم أردفت (أحيانًا كتر الوعي بيسبب شقاء للإنسان.. وبيسبب وحدة.. لأن الوعي ممكن يؤدي لعدم قدرة الإنسان على الانخراط مع المجتمع بشكل كامل..)، ثم ختمت حديثها بقولها (ها أدخل في نشاط خيري برضو، لأن ده ممكن يفيد.. وربنا يعين كل واحد على حاله..).
وكتبت سيدة فاضلة أخرى، "كنت دايما أسأل نفسي وسط زحمة المسؤوليات وضغوط الحياة: هل لو بقيت لوحدي ها أكون مبسوطة ولا لأ؟..عنوان المقال لوحده مقال"، كما تلقيت بعض مكالمات تليفونية مع أصدقاء وقراء أعزاء.
أحسستُ بقدر الوجع في عالم تفوق اختلافاته اتفاقاته. فقدت عناوين التواصل الاجتماعي معناها في ظل حياة افتراضية لا تمت إلى الواقع بصلة.
تاه كثيرون في زحام التكنولوجيا، واختُزلت المناسبات في"منشورات" قد تجد من يهتم بالرد عليها، رسائل باردة لا تُسمن ولا تغني في فراغ يحيط بالبعض وقت الشدائد، والحاجة إلى من يقف إلى جوارك لتتكئ عليه، ويُقَوم ظهرك وقت المحنة، فتوقن أن الدنيا ما زال فيها خير وأنك لست وحدك في الخندق.
ثمة مثل شائع في دول عربية بلهجات مختلفة يقول (خفت أهزك يا غربالي، يقع منك اللي حسبته غالي)، هنا فقط تدرك الحقيقة، فلا تنزعج إن وجدت غُربالك قد خلا من زحامه، فكل زحام وقت اليُسر لا يُعَوَّل عليه، وحاذر أن تُلقي بنفسك في قوقعة العزلة السلبية فتغدو أسيرًا لخيالاتك وأوهامك، وتزداد كثافة شرنقتك يومًا بعد يوم، فإذا بعزلتك تنقلب جحيمًا.
فإن كنتَ ولابد فاعلاً فعليك بالعزلة الإيجابية؛ الأقرب إلى "جنة الصمت" التي يختارها الإنسان بمحض إرادته وكامل وعيه ليعيد اكتشاف ذاته مع استمرار عطائه الإيجابي. ولنا في نموذجين لعلمين من أعلام الفكر العربي، قَلَ أن نجد لهما نظيرًا، أسوة حسنة، حوّلا عزلتهما إلى إبداع وفكر.
اعتزل أبو العلاء المعري (973-1057) الناس في أوائل الأربعين من عمره، ولم يخرج من بيته حتى وفاته عن عمر ناهز أربعة وثمانين عامًا. لُقِبَ برهين المحبسين؛ بيته وفَقدَ بصره، وزادها هو إلى ثلاث عندما قال (وحبسُ نفسي في هذا الجسد).
كان شاعرًا ومفكرًا وفيلسوفًا متبحرًا في علوم الأدب والنحو، لم ينافسه أحد من أهل زمانه، وعندما اعتزل الناس في بيته صاروا يحجون إليه ليتعلموا منه، لزم بيته ولم يُوصِد بابه على نفسه، بل واصل انفتاحه على علوم وآداب الحضارات الأخرى، وكان يأنف أن ينفق عليه أحد، فإذا أتته عطايا الحكام ردها، واشتهر بغزارة إنتاجه الأدبي أشهرها رائعته "رسالة الغفران"، وديواني "سقط الزند واللزوميات".
أما الدكتور جمال حمدان (1928-1993)، العلامة الجغرافي، فقد قرر الاستقالة من الجامعة احتجاجًا على رفض لجنة الترقي منحه درجة الأستاذية. اعتزل الحياة الأكاديمية، واكتفى من حياته الاجتماعية بدائرة ضيقة جدًا من المقربين ضمّت بعض أعلام السياسة والصحافة والأدب في مصر والعالم العربي. حَوّل منزله المتواضع إلى مكتب فكري فألَّف ونشر 39 كتابًا وعشرات الأبحاث، إضافة إلى كتابة العديد من مقدمات الكتب. من أبرز أعماله كتابه الفريد "شخصية مصر.. دراسة في عبقرية المكان" وكذلك كتاب "اليهود أنثروبولوجياً".
نعم، أوافقك الرأي يا سيدتي في أن ارتفاع مستوى الوعي يمكن أن يسبّب الشقاء. فكلما زادتْ معرفتك، قَلّتْ نقاط التقائك مع الآخرين. ولا يعني هذا رفضًا للوعي، بل يعني تغيير نمط التعامل مع الآخرين، فالمعري وحمدان لم يرفضا العالم، بل أعادا صياغته من داخل عزلتهما.
لذلك، فإن الانخراط في عمل خيري يعد أحد الحلول الإيجابية التي تُذكّرنا بأننا جزء من كل، وليُذَكر كلٌ منا نفسه "أنك لست وحدك"، هذا إن لم يجد من يذكره.
--------------------
بقلم: د. محمد مصطفى الخياط
[email protected]